سورة البقرة من الآية 3 إلى الآية 4/ عبدالله بدر اسكندر

قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون: من أهم الصفات التي تميز الإنسان المؤمن عن الآخرين هي صفة الإيمان بالغيب، أي إيمانه بما وراء الحس الذي ينسل من المطالب التي ترتكز على الآثار وما تشتمل عليه من دلالات يرجع تعريفها إلى العلل ومدى ارتباط المعلول فيها وصولاً إلى العلة المباشرة للوجود، وهذا التفكير قد يحرم منه غير المؤمن وذلك لعدم تصديقه بما وراء المادة، فهو لا يؤمن إلا بالتجربة دون الانتقال المعنوي الذي يؤهله للاستفادة من أبعاد الكون الأخرى وإن شئت فقل دون الخروج من القيد الذي يتمثل بالظواهر الحاضرة أمامه سواء علم بالسبب المباشر لتلك الظواهر أم لم يعلم، ولهذا فالتجربة لا يمكن أن تقدم برهاناً على التكامل المعرفي بما فيه من قوانين وسنن وذلك لبعدها عن المستلزمات العقلية، وكذا ما يراعى فيها من عدم الاطمئنان إلى ما هو خارج الزمان والمكان، وهذا خلاف العقل الذي يكون حاكماً على التجربة بسبب خروجه عن دائرة الزمان والمكان.
من بعد هذه المقدمة يمكن القول إن الإيمان هو التصديق، والتصديق من أفعال القلوب ولهذا نجد أن هناك كثيراً من الآيات قد قرنت الإيمان بالقلب، كقوله تعالى: (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) المائدة 41. وكذا قوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106. وقوله تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) المجادلة 22. وقوله: (ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات 14. أما الآيات التي قرنت العمل الصالح بالإيمان فظاهرها يدل على أن الإيمان لا يدخل فيه العمل إلا من الجهة العرفية، وذلك لتغاير المعطوف والمعطوف عليه، من هنا يظهر الفرق في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الحجرات 9. وكذا قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الأنعام 82. وعلى هذا التقدير لا يمكن أن يكون إقرار اللسان بالإيمان داخلاً في معنى التصديق وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) البقرة 8. فإن قيل: وماذا عن الآيات التي أثنت على المؤمنين دون الإشارة إلى عملهم؟ أقول: للإيمان مراحل ودرجات فقد يزيد وينقص، حيث إن الزيادة في الإيمان يكون متعلقها الإخلاص في العمل وإلا كانت سالبة بانتفاء الموضوع، باعتبار أن الصلاح يقود إلى الأصلح، وهذا يدخل تحت المسمى الشرعي للإيمان دون الوضعي، وقد بيّن القرآن الكريم درجات الإيمان التي تتفاوت بين الناس، كما في قوله تعالى: (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً) النساء 46. وكذا قوله: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) التوبة 124. 
وبناءً على ما قدمنا يمكن القول إن الإيمان إذا تلبّس بالعمل فلا ينفك عنه إلا بتأثير خارجي أو بسبب ضعف الإنسان نفسه، باعتبار أن مراحل الإيمان أقرب إلى مراحل التقوى التي بينها تعالى بقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن 16. وفي مرحلة أخرى قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) آل عمران 102. وما يقابل هذا نجده ظاهراً في قوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقرة 286. والفرق واضح في هذه الآية بين الكسب والاكتساب، ثم في آيات أخرى نجد أن معنى الاكتساب قد دخل في معنى الكسب، وذلك بعد أن أصبحت السيئات في متناول الأيدي دون كلفة وعناء، كما في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الروم 41. وكذا قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) الشورى 30. وقوله: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) الأنعام 70. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) الأحزاب 58. أقول: إن ما ينسب هؤلاء للمؤمنين قد أنزل منزلة الصدق في باب المصدق، حتى صارت الأفعال الصادرة من المؤمنين على فرض وقوعها كأنها أمر متلبس بهم من جهة الذين آذوهم دون الحقيقة المرادة من الفعل، وهذا كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) الحجرات 6. ولو كان هذا الكلام بغير القرآن يكون تقديره "إن جاءكم فاسق بخبر" لأن الثاني يحتمل الصدق وخلافه، إلا أن القرآن الكريم أتى بـ "النبأ" ليبيّن قوة الفعل الصادر من الفاسق، وإن شئت فقل قوة الفعل التي أجراها مجرى الصدق، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) المائدة 93. فالآية جمعت الإيمان والعمل الصالح ثم أخرجت العمل باعتبار تضمن الإيمان له، ثم أخرجت الإيمان باعتبار تضمن التقوى له فتأمل.
قوله تعالى: والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون: المفاهيم العامة التي تفرقت في القرآن الكريم تدعو جميعها إلى تكامل الإنسان ابتداءً من المنهج التربوي وانتهاءً بالبيان الملازم للآخرة وما يحدث فيها من الأهوال أو ما يقابل ذلك من النعيم، إلا أن المراحل المهمة التي تأخذ المساحة الأكبر تجعل الامتداد التأريخي يتكفل في مسيرة الإنسان بكل ما أتى به الأنبياء من خلال فتراتهم المتعاقبة التي سبقت عصر التنزيل، ولهذا فإن الله تعالى لم يجعل التعاليم بمنأئ عن المقومات الخاصة بالشرائع السابقة على الرغم من العقد والابتعاد المعنوي بين اتباع تلك الشرائع باعتبارها غاية واحدة وإن اختلفت الوسائل الموصلة إليها، ومن هنا كان مبعث الأنبياء يسير ضمن التكامل الذي يكتب للإنسان أسباب تواجده على هذه الأرض، ثم بعد ذلك يأخذ بيديه إلى النعيم الأبدي، أما التفرق الذي حدث بين العلماء في تلك الشرائع فهذا لا يعد من الغرابة، إذا ما نظرنا إلى أقرانهم في هذه الأمة، وكيف يجانب بعضهم بعضاً بسبب الطائفية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا ما جعل الجهل والتخلف يتحكمان في أتباع من يتبنى مختلف الأفكار الناتجة من العلماء أو ما يسمى بذلك، حتى أصبح الدفاع عن المذهبية أقرب إلى أصحابه من الاهتمام بالمنهج الذي أنزله الله تعالى على لسان نبيه (ص) وهذا ما يجعل الأمر جلياً من أن المذاهب هي من صنع الناس أنفسهم.
وعند البحث عن الحقيقة نجد أن القوانين والنظم التي وضعها الله تعالى تشير جميعها إلى اتجاه واحد وهو خدمة الإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى الجهة التي ينتمي إليها، اللهم إلا الانتماء الذي يُخرجه عن معرفة التوحيد الذي جاء على لسان الرسل "عليهم السلام"، وهذا ما نجده في دعوة القرآن الكريم إلى لغة الحوار بين جميع أتباع الشرائع، كما بين تعالى ذلك في قوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران 64. ومن هنا نفهم أن التوحيد هو الجامع الأكبر بين المسلمين وأهل الكتاب وقد بين تعالى هذا النهج في كثير من الآيات التي تدعو إلى الروابط العامة في هذا الجامع، كما في قوله: (غلبت الروم... في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون... في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون... بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) الروم 2- 5.
وبناءً على ما مر يظهر أن الغرض الأسمى من إرسال الرسل يجب أن ترد نتائجه إلى الإنسان، لأجل أن تسير الحياة ضمن المنهج الذي قضى به الله تعالى في قوله: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10. ولمّا كانت البشرية في نزاع لا تنفك لوازمه فمن الطبيعي أن يوجه هذا النزاع ليشتمل على الطاعة المجسدة له من جهة وإخضاعه للقوانين التي تمهد صيرورته من جهة أخرى، وهذا ما جعل التفاضل بين الرسل يتفق مع الجانب الذي يقتضيه العمل المتكامل في دعوتهم التي تختلف حيثياتها باختلاف الأماكن والنزعات المتطرفة بين الأقوام المرسل إليهم، ومن هنا كان التخصيص ببعض الصفات لبعض منهم دون بعض، وهذا الأمر يجري في جميع الاتجاهات التي تنتهجها الأقوام الذين يحتاجون إلى الريادة أو القيادة التي تأخذ امتدادها من التعاليم التي وصلت إليهم عن طريق الأنبياء سواء في زمن تواجدهم أو ما بعد المرحلة التي يطلق عليها بـ "الفترة". وقد بين تعالى هذا التخصيص في قوله: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) البقرة 253. وكذا قوله: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) الإسراء 55. فالتفضيل المشار إليه في الآيتين يعد من المقررات التي حملتها الرسالات قياساً إلى ما يقتضيه الحال الذي يقوم على متطلبات الأقوام المبعوث إليهم.
ومن هنا كان سبب إنزال الكتب أقرب إلى بعث روح اليقين لدى الناس مما يمهد لهم الإيمان بالله تعالى وبالأنبياء واليوم الآخر، وما يلحق ذلك من متطلبات العقيدة لأن الرسالات يكمل بعضها بعضاً، وصولاً إلى الرسالة الخاتمة التي بين تعالى فيها صراحة الدعوة إلى الإيمان بجميع الرسل والرسالات التي سبقت عصر التنزيل، علماً أن هذه الظاهرة كانت مستطردة في جميع الشرائع إلا أن تأكيد القرآن الكريم لها أضفى عليها الشرعية العامة التي ينبغي الامتثال لها سواء من أهل الكتاب أو الأميين، ولهذا قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة 285. وكذا قوله: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) آل عمران 84. فإن قيل: كيف يأمرنا الله تعالى بطاعة الأنبياء وعدم التفريق بينهم وهناك آيات ذكرت التفاضل كما أشرت؟ أقول: أسباب التفاضل ترد إلى الله تعالى دون الإنسان وقد بين سبحانه هذا الأمر بقوله: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران 33. ولم يكن هذا التفاضل عبثاً بل كان برحمة منه تعالى نتيجة ما سلف من أعمالهم كما في قوله: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف 31. ثم قال: (أهم يقسمون رحمة ربك) الزخرف 32. من هنا يظهر أن الغرض الأسمى للدعوة وإرسال الرسل لا يراد منه إلا هداية الناس إلى ما فيه صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة، ولا يتحقق هذا إلا باعترافهم بوحدانية الله تعالى، كما في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء 25. وبناءً على هذه النتائج تظهر الصفة الرابعة من صفات المتقين التي أشار إليها تعالى بقوله: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) البقرة 4. 
     من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
         

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق