ويسبح الرعد بحمده/ عبدالله بدر اسكندر

   
التسبيح هو التنزيه أي تنزيه المسبح له عن كل نقص، ومن هنا اختلفت الوسائل الفاعلة في التسبيح فمنها ما يكون بالكلام الظاهر، ومنها ما توحي به الحركات الصورية الدالة على تعظيم جنس الفعل، دون التعرض للألفاظ المتعارف عليها، إلا بما يتفق مع خروج العمل عن هيئته الحاصلة من التجريد، وإن كان حضور الأشياء المشاركة في الفعل شاهداً على تنزيه من هو مستحق له، ولهذا اعتمدنا على تفريق المفاهيم العامة ونسبة المصاديق الخاصة إليها حسب الدرجات التي تجتمع وتشارك في إظهار عظمة المسبح له وتنزيهه عما لا يليق به، وبناءً على هذا التمهيد نستطيع القول إن الابتعاد عن فهم الأدلة القرآنية الظاهرة والاعتماد على الأجزاء اليسيرة من الإيضاح الذي يفضي بالعلماء دون غيرهم إلى التهافت غير المبرر على معرفة النهج الإلزامي لطبيعة حياة الكائنات قد لا يتناسب مع المحتوى الكبير الذي يجهر به الناس، ولهذا ترى تفرق الحقائق إلى كيفيات لا حصر لها وذلك بسبب التزام أولئك العلماء بالمناهج التي لا تخدم الغرض الأسمى لمعرفة أسرار الكتاب المبين، ومن هنا تداخلت أفكارهم مع إثبات الفصول التي تعتمد في رواياتها على النقل الذي لا يُرجح العقلاء جل ما فيه، وهذا ما جعل الحديث بمنزلة الواسطة المسيرة للعلماء حتى كاد أن يكون من المراجع المباشرة في معرفة علم الموجودات سواء منها العاقلة أو التي لم تعقل، إضافة إلى بيان ما يتصف به كل نوع منها، ولهذا أحيطت تلك النظرة بالقدسية المنتشرة بين فروع الكلام الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من البعد المادي الذي يدلل على أفعالهم وما تؤول إليه مداركهم التي أدت إلى تفرقهم وأخذهم بالعقائد الباطلة التي لا يمكن أن تستقيم وجوهها بنفس المقاصد العامة التي أرادها الحق سبحانه من فهم كتابه المجيد والتطلع إلى ما فيه من الحكم وكذا الجمع بينها وبين الأسرار التي أخفاها الله تعالى في النظام الكوني الحافظ للكائنات التي تُشعر الآخرين من أن فوق هذا النظام إرادة الله الغالبة التي تُلهم هذه الكائنات وتبين لها الكيفية التي تستمد منها طرق العيش التي تختلف من صنف إلى آخر، وهذا ما يجعل العلل الناتجة عن تسبيحها تقترب من إظهار الدلائل الفعلية لهذا الوجود.

من هنا نعلم أن الحجة اليقينية لا تقوم أركانها إلا بالرجوع إلى تقييم الدلائل التي أشرنا إليها، باعتبار أن لها وجهاً آخر يعمل على نفي الشريك عنه سبحانه، علماً أن الكبرى لا تكتب لها الاستقامة إلا بإثبات الوجه الثاني الذي يتضمن نفي المثيل أو الشبيه، وأنت خبير من أن الحجج لا تعتمد على إيجاد حقيقة الموجودات أو اختلاف طرق العيش التي تتخذها، وإنما تعتمد على إرجاع أمرها إلى الإيجاد الذي يجعلها تتحدث عن صفاتها وأفعالها، دون أن يكون هناك قولاً ظاهراً أو إشارة إلى ما تريد إيصاله لعامة الناس وهذا ما يجعل أفعالها المستترة هي التي توحي بأبلغ بيان من أن هناك من يسيّر وجودها ويتكفل في بقائها على الوجه الذي يضمن سلامة كل نوع منها، وهذا ما يجعل المعارف الدالة على أصل الموجودات لا تقترن بالجزاء، وإنما يراعى بموجبها تبيان الجزء الأكبر الذي تتم به الحجة البالغة على الذين لا يؤمنون، وتبيان الفرق بينهم وبين العلماء الذين لا تؤثر فيهم الآيات التي تظهر لغيرهم من خلال ما في الكائنات من دلائل، وذلك لأن هؤلاء قد توصلوا إلى معرفة الموجودات وأسرارها جرّاء معرفتهم بالخالق وليس العكس فتأمل. 
وبناءً على ما تقدم تظهر النكتة في قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68. وكذا قوله: (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن) الملك 19. وقوله: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) النور 41. وعند الجمع بين الآيات آنفة الذكر وما تضمنته في مفهومها، نصل إلى أن المراد من التسبيح هو إظهار العلم اليقيني الدال على تنزيه الخالق سبحانه، فالأمر لا يحتاج إلى تلفظ أو بيان ما في نفس تلك الكائنات من قول، سواء كان بلغة التفاهم الخاصة بها، أو اللغة التي توصل الإنسان وإن شئت فقل أصحاب الاختصاص إلى حل رموزها، من ذلك يتضح أن النظائر القرآنية تشير إلى أن تعدد المواقف الفعلية لكل كائن لا ترقى إلى إيصال ما في نفسه إلى الآخرين، وإنما يُرد ذلك الأمر إلى لسان الحال الذي علمنا من خلاله أن لتلك الكائنات صوراً علمية خاصة بها، دون أن يكون لها أي نوع من الإدراك الذي تصل بموجبه إلى إظهار ملامحها، باستثناء العقلاء الذين يجمعون بين لسان الحال والمقال.. فتأمل.
فإن قيل: ما هو الدليل الذي يمكن أن نصل من خلاله إلى معرفة لسان الحال لدى تلك الكائنات؟ أقول: التناسق بين أصناف الكائنات وكذا قيامها بالأعمال الفطرية وأداء المهام الخاصة بكل نوع منها، هو الدليل على بيان حالها، وإثبات أن ذلك آية من آيات الله تعالى.
فإن قيل: ما هو الدليل النقلي على أن لسان الحال هو الذي يظهر ما خفي من أفعالٍ لدى جميع الموجودات؟ أقول: أشار الحق سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) التوبة 17. أي إن أعمالهم التي يقومون بها هي التي تبين شهادتهم على أنفسهم بالكفر، دون أن يكون هناك قولاً منهم أو إشارة. وكذا قوله: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها) الأحزاب 72. وقوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف 172. وكذلك قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 11. وقوله: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) الحشر 21. وقوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) ق 30. 
فهذه الآيات جميعها تبين بل وتشهد على إظهار الجماد لمئاله بلسان حاله دون المقال كما بينا، ومن هنا يمكن أن نصل إلى أن تسبيح الكائنات غير العاقلة، لا يراد منه التسبيح الحقيقي الذي يُفهم من خلال القول وإنما المراد من ذلك هو إظهارها تنزيه الحق سبحانه بواسطة ما أودع فيها من أسرار خلقها التي تدل على وحدانية الصانع، وعلى قدرته وحكمته فيما أفاض عليها من صفات حية وألهمها أداء وظائفها على الشكل الذي قدره سبحانه لكل كائن منها، كما بين هذا المعنى بقوله: (إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر) القمر 49. وكذا قوله: ( قال ربنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى) طه 50.
وبهذا يظهر الفرق بين تسبيح المكلفين وبين تسبيح الكائنات الأخرى، علماً أن تسبيح المكلفين قد يستعمل في الحقيقة والمجاز معاً، دون الكائنات الأخرى التي تنزه الله تعالى بواسطة الإلهام الذي يدلل على حسن صنعتها وما أبدع سبحانه في كل نوع منها، سواء كان ذلك من الجمادات أو المخلوقات الأخرى، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً) الإسراء 44. وقد يتفرع على الكبرى التي أشرنا إليها مجموعة من الآيات، منها قوله تعالى: (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) الرعد 13.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال البقلي في عرائس البيان: الرعد ههنا شهقات الصديقين من الوجد والهيجان فى بحار العظمة من وقوع انوار تنزيه القدم فى قلوبهم فرعد شهقاتهم لسان الربوبية تقدس ساحة كبريائه عن غبار حوادث الحدثان والملائكة ارواح العارفين وهى فانية من اجلال عظمته ناطق بنطق ازليته بوصف ديموميته واذا اشرق شوامخ القدم والبقاء من طلوع شمس الذات والصفات فيقع صواعق الكبرياء على اهل التجريد والتفريج فيفنيهم عن الحدثان وتحرقهم عن نفوسهم هكذا يفعل بهم سطوات القدوسية وسبحات الالوهية غيرةً على مشاهدة القدم، قال ابن البرقى فى هذه الاية يريكم انوار محبته فمن خائف فى استنارة وطامع فى تجلية، وقال ابو على الثقفى ورود الاحوال على الاسرار كالبروق لا يمكث بل تلوح فاذا لاح فربما ازعج من خائف خوفه وربما حرك من محب حبه، قال ابو بكر بن طاهر خوفا من اعتراض الكدورة فى صفا المعرفة وطمعا فى الملازمة فى اخلاص المعاملة، وقال ابو يعقوب الابهرى خوفا من القطع والافتراق وطمعا فى القرب والاستباق.
 وقال بعضهم خوفا من عقابه وطمعا فى ثوابه، قال ابن عطاء خوفا للمسافر وطمعا للمقيم، وقال ابن الزنجانى الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات افئدتهم والمطر بكاؤهم، وقال الاستاذ كما يريهم البرق فى الظاهر فيرددهم بين خوف وطمع خوفا من احتباس المطر وطمعا فى محبته وخوفا للمسافر فى مجئ المطر وطمعا للمقيم فى مجيئه، كذلك يريهم البرق فى اسرارهم بما يبدوا فيها من اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع ثم كالبرق فى الضياء وهذه انوار المحاضرة ثم انوار المكاشفة خوفا من ان ينقطع ولا يبقى وطمعا فى ان تدوم فيرتقي صاحبه عن المحاضرة الى المكاشفة ثم من المكاشفة الى المشاهدة ثم الى الوجود ثم من مقام الوجود الى كمال الخمود، ويقال البروق من حيث البرهان ثم يزيد فيصير كاقمار البيان ثم يصير الى نهار العرفان، فان طلعت شموس التوحيد فلا خفاء بعده ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس كما قيل: 
هي الشمس إلا أن للشمس غيبة... وهذا الذي يفنيه ليس يغيب
انتهى: أقول: لا تعليق.
الرأي الثاني: يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: ولما كان الرعد صوتاً عظيماً جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلاً على تنزيه الله تعالى، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي. ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يُسبح الله تعالى، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح، أي قول سبحان الله، والباء في (بحمده)  للملابسة، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد. انتهى موضع الحاجة.
 ومن أراد المزيد فليراجع تفسير التحرير والتنوير. 

       
abdullahhenrico@outlook.com

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق