الدور الريادي للمسيحية العربية/ فهد الريماوي

على اديم زمن ملتبس وخلافي افترق فيه المبنى عن المعنى، والعنوان عن المضمون، والفعل عن الفاعل، والمبتدأ عن الخبر، والنعت عن المنعوت، تجهد المسيحية العربية لاعادة تعريف نفسها، وتظهير خطابها السياسي، وبلورة فهمها للواقع العربي السائد، واسترجاع دورها الوطني والقومي القديم

وفيما تتقاطر بعض القيادات الاسلامية للتطبيع مع العدو الصهيوني بذريعة الصلاة في الاقصى الاسير، وتتدافع جماعات الاسلام السياسي على ابواب لندن وباريس وواشنطن لتقديم اوراق الاعتماد، وشهادات حسن السير والسلوك، وضمانات الحفاظ على معاهدات الصلح مع العدو·· تنأى القيادات المسيحية العربية بنفسها عن هذا العبث والتهافت والهرولة المقيتة، وتعلن موقفها الحازم في رفض اي صلح او سلام مع العدو قبل اقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وجلاء هذا العدو عن كل شبر عربي محتل

كم هو لافت للنظر، وباعث على التأمل، ذلك الفارق النوعي الهائل بين موقف البابا القبطي المرحوم شنودة الذي رفض، على امتداد اربعين عاماً، السماح للاقباط بزيارة الاماكن المسيحية في القدس المحتلة ما دامت محتلة، وبين موقف الشيخ علي جمعة، مفتي الديار المصرية، الذي اتخذ الصلاة المباركة في الاقصى وسيلة للتطبيع الشنيع مع الغاصب اليهودي الذي يتحين اقرب الفرص لتدمير هذا المسجد العتيق

كم هو لافت للنظر، وباعث على المقارنة، ذلك الفارق السياسي والاخلاقي الواسع بين موقف الشيخ يوسف القرضاوي الذي افتى بقتل امرئ مسلم اسمه معمر القذافي دون محاكمة، واحل الاستقواء بحلف الناتو لتدمير ليبيا وسوريا، وبين موقف البطريرك الماروني اللبناني، بشارة الراعي الذي ادان اي تدخل اجنبي في الشؤون الداخلية العربية، واشاد بالنهج الاصلاحي الذي باشرته القيادة السورية منذ اكثر من سنة

قبل عقد من الزمان، توقف الكثير من ابناء امتنا العربية امام مفارقة مثيرة للدهشة تمثلت في قيام خادم الحرمين الذي كان ولياً للعهد آنذاك، بطرح مبادرته السياسية المعروفة على مؤتمر قمة بيروت عام 2002 خلواً من حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، ولكن الرئيس اللبناني الماروني، اميل لحود الذي ترأس تلك القمة، رأى في تلك المبادرة انحيازاً لاسرائيل، ورفض بكل اصرار بحثها او مناقشتها، قبل اضافة بند "حق العودة" الى مسودتها·· وهكذا كان

ربما يطول حديث المقارنة بين ثبات معظم القيادات الروحية والسياسية المسيحية، من امثال المطران هيلاريون كبوجي، والمطران عطا الله حنا، والعماد ميشال عون، وبين تنازلات بعض قادة الاسلام السياسي، من امثال راشد الغنوشي، وسعد الكتاتني، وعلي البيانوني، ومصطفى عبد الجليل الذين فاجأوا الرأي العام العربي بتنازلات للعدو الصهيوني، ومساومات مع دول الاستعمار الامريكي والاوروبي والعثماني لم تكن تخطر على بال، او ترد حتى ولو في الخيال

شتان بين خطاب المسيحية العربية المتفهم للظروف الراهنة، والمتصف بالروية والاعتدال وبعد النظر، والمحكوم بذهنية توفيقية وتنويرية وتقدمية، وبين خطاب جمع غفير من المنابر والاقلام والفضائيات المحسوبة على الاسلاميين التي تتبارى في التحريض والتحشيد والتصعيد والتكفير والتنابز بالمذاهب والطوائف والملل والنحل وكل ما يفرق ولا يوفق، ويبدد ولا يوحد، ويؤجج نيران الفتن بدل اطفاء بؤر التوتر، واصلاح ذات البين

وليس خافياً على احد ان هذا الشطط في خطاب جملة من الحركات والجماعات الاسلامية سوف يقود حتماً، ليس الى مباعدة اسلامية - مسيحية داخل الوطن العربي فحسب، بل ايضاً الى انقسامات وافتراقات متعددة داخل الصف الاسلامي ذاته، والى صراعات دامية وحامية وطويلة المدى بين السنة والشيعة بشكل خاص، وبين الاسلاميين المعتدلين والمتطرفين بشكل عام

ولعل الغريب العجيب في هذا الخصوص، ان الجماعات الاسلامية التي ابتلعت فريضة الجهاد ضد العدو الصهيوني، وتعهدت بين يدي واشنطن باحترام اتفاقيات الصلح والتطبيع مع هذا العدو، وشدت الرحال مراراً وتكراراً الى عواصم الاستعمار ومراكز حلف الناتو، قد قلبت ظهر المجن لايران وحزب الله والطائفة الشيعية عموماً، وحرضت على ممارسة الارهاب الاسود ضد القلعة السورية الصامدة في وجه سائر المخططات الصهيونية والمشاريع التصفوية والاستسلامية

وبدل ان تهتبل هذه الجماعات فرصة "الربيع العربي" الذي اوصل بعضها الى سدة الحكم العربي، لتطوير خطابها، وتجديد طروحاتها، واعتماد منطق التفاهم والتقاسم والمقاربة والمشاركة مع القوى والمذاهب والطوائف والتشكيلات الاخرى، لجأت الى عكس ذلك - بكل اسف - حيث عمدت بفعل الغرور الى احتكار السلطة، ومذهبة الخطاب، واستبعاد الآخرين، وحتى تخوينهم وتكفيرهم ومصادرة حقهم في المعارضة والانتقاد، بوصفهم يعارضون حكومات مؤمنة وسلطات مقدسة لا يأتيها الباطل من بين ايديها ولا من خلفها

ورغم ان هذه المنظمات والجماعات المصابة بدوار الغرور، لا تسمع الا صوتها، ولا تقنع الا من لدن حلفائها، الا اننا نود ان ننصح لها بالابتعاد عن فقه التشدد والتفرد، وفكر الاحتكار والاستئثار، ومنطق الاستعلاء والمغالبة وتجاهل الآخرين·· ولعل نظرة عاجلة على تضاريس التاريخ العربي المعاصر، سوف تثبت ان كل القوى والاحزاب والتنظيمات التي تفردت بالحكم، واستحوذت على الشارع، وتنكرت للآخرين، قد خذلت نفسها قبل خذلان غيرها، واخفقت في تطبيق مشاريعها وتحقيق اهداف امتها، وبقيت كالمُنبتّ الذي لا ارضاً قطع، ولا ظهراً ابقى

على مدى التاريخ الاسلامي، ظلت الاكثرية السنية تقود ركب التطور والتجديد، وتخرج الافذاذ من العلماء والفقهاء، وتحكم بالكثير من الوسطية والسماحة والعقلانية والاتزان، وتنفر من غوائل الشطط والغلو والتعالي والانتقاص من حقوق الاقليات·· وليس في صالحها اليوم ان تنقلب على تاريخها، او تفتئت على غيرها، او تستقوي بالاجنبي على ابناء دينها وامتها مهما كانت مذاهبهم ومشاربهم، بل مهما بلغت الخلافات السياسية والعقائدية بينها وبينهم

وعليه، وفي عود على بدء، يمكننا القول ان المسيحية العربية التي دقت نواقيس اليقظة القومية قبل اكثر من قرن، وقدمت الكثير من العناء على دروب التقدم والتحرر والاستنهاض، قد اثبتت مجدداً هذا الاوان عمق مشاعرها الوطنية، وصدق اصالتها العروبية، وسعة افقها السياسي، وقوة بصيرتها الاستشرافية، وصوابية رهانها على امتها المشرقية، وليس الرهان - كما يفعل بعض الاسلاميين - على المحافل الغربية والاجنبية

وليس من المستبعد ان تُلقى على عاتق المسيحية العربية جملة مهمات ريادية وتنويرية وتثقيفية بالغة الاهمية والجدية، ما دام الصف الاسلامي مشغولاً في الوقت الراهن باستحضار سيوف موقعة صفين، ومحاربة الفنون بمختلف انواعها، واخضاع العمل السياسي، ليس للابحاث والدراسات والنظريات العلمية والعصرية، بل للفتاوى الوهابية العجيبة التي تبيح ارضاع الكبير، ومضاجعة الزوجة الميتة، وتغطية وجوه التماثيل، ورفع الاذان في مجلس النواب، ومحالفة الناتو ضد الاخ العربي والمسلم، وممارسة التطبيع باسم الصلاة في الاقصى

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق