النداء القاصر الذي يلهج به أعداء الدين لا يحتاج إلى إظهار مسبباته بالقدر التكليفي المتخذ سلفاً على عامة الناس، وذلك كون أصحاب الدعوة لا يهدفون من خلال أفعالهم إلا إلى إبعاد أتباعهم عن الطريق الموصل إلى الحق سبحانه، ولهذا نرى أن تطبيقات أقوالهم قد تخرج عن المألوف في كثير من الأحيان بذريعة ما ينسب إلى الله تعالى من الامتنان الجزافي في تعداد النعم حسب ما يؤول إليه ظنهم، ولكي نبين حصيلة أخطاء هؤلاء الناس يجب أن نجعل القيود التطبيقية تأخذ مجراها الحقيقي من بين الحيثيات المتفرقة التي يتعرض إليها القرآن الكريم، علماً أن هذا الأمر لم يكن بدعاً في الترغيب المقصود من شكر النعم أو الترهيب الذي يرافق الكفر بها، إذا علمنا يقيناً أن القلوب قد يصيبها الصدأ إن لم يطرأ عليها التذكير الموافق لفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبهذا ينتفي أصل النداء الذي أرادوا تصنيفه ضمن المداخل العلمية أو الفضائل التي تم وضعها في غير أماكنها لأجل إبطال الحق، ومن هنا نجد أن جميع السبل المتبعة عنوة بهذا الاتجاه لا تقوم مقام المدار الإيماني المتكفل بإظهار النعم على الوجه المقرر في كتاب الله تعالى.
وتأسيساً على ما قدمنا نستطيع القول إن الأحداث البيانية التي أشار إليها الحق سبحانه هي الأصل في ذكر الأسباب المباشرة لتعداد النعم التي تطرق إليها القرآن الكريم مع ملاحظة عدم الأخذ بالآراء السقيمة التي تصل إلينا عن طريق المصادر البعيدة عن الصواب، وبهذا نعلم أن اتباع الضوابط الشرعية يقتضي التذكير بنعم الله جل شأنه دون الاعتماد على الأحاديث الواهية أو الأفكار الباطلة التي ينشرها بعض الناس، وخلاصة الأمر أن التذكير بالنعم لا يخرج عن كونه من السنن الإلهية التي أشار إليها القرآن الكريم وقد ورد تفصيلها على لسان مجموعة من الأنبياء، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره سبحانه حكاية عن موسى في قوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) المائدة 20. وكذا ما ورد على لسان هود في قوله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) الأعراف 69. وكذلك نجد هذا التذكير على لسان صالح في قوله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) الأعراف 74.
ومن مجموع الآيات نستخلص مدى أهمية التوجيه الملازم للأقوام الذين أرسل الله تعالى إليهم الأنبياء ما يجعل تذكيرهم بالنعم هو السبيل إلى تخويفهم من الأخطار القادمة إليهم جراء كفرهم بتلك النعم، وهذا أقرب إلى التحذير المرحلي المصاحب للإنذار الموجه إليهم، ومن هنا نعلم أن ذكر النعمة والإشارة إليها بمختلف الوسائل يمهد الطريق لشكرها، لأجل أن يظل الإنسان سائراً في صحبة دين الحق، ومنقطعاً بين الرجاء والخوف، وهذا ما يستنتج من الأغراض الأساسية التي جعلها الله تعالى تحاكي واقع الأمم عبر التأريخ لكي تضمن رجوعها إلى الحق جل شأنه من خلال الترغيب والترهيب كون الإنسان إذا ترك وشأنه فربما ينسى أو يتناسى نعم الله تعالى، وبالتالي فقد يلجأ إلى قوته الوهمية ويؤمن باستقلالها عن القوة المطلقة التي ترفده في جميع حالاته واتجاهاته، ولذلك فهو ينزع إلى الاستكبار والاستعلاء، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوساً) الإسراء 83. وكما ترى فإن هذا الصنف من الناس سوف يؤدي بهم الإعراض إلى تغيير ما بأنفسهم نحو الأسوأ، كما في قوله عز من قائل: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الأنفال 53. وقد يرد هذا البيان إلى الكبرى الكلية التي ذكرها تعالى بقوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد 11.
من هنا نرى أن للنعمة مجموعة من المصاديق ترد إلى المفهوم العام وقد تتفرق في تطبيقاتها، فتارة نلاحظ أن الحق سبحانه يذكر المؤمنين بدفع الأخطار عنهم، وتارة يشير إلى نعمة التأليف بين قلوبهم، ويشهد للمصداق الأول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) المائدة 11. وكذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) الأحزاب 9. وكما ترى فإن مقتضى السياق اللفظي في الآيتين يبين مدى تفضل الحق سبحانه على المؤمنين بنعمة دفع الأخطار عنهم لأجل أن يشكروا الله تعالى، وهذا هو المغزى الفعلي الناتج عن التذكير بالنعم لكي يستقر الإيمان في القلوب الطاهرة، ما يؤدي إلى إظهار دين الله في الأرض وعدم الالتفات إلى ما كان يلهج به أصحاب النداء القاصر الذين أشرنا إليهم في أول البحث.
ويشهد للمصداق الثاني قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) آل عمران 103. وكذا قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) الأنفال 26. وقوله تعالى: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين... وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) الأنفال 62- 63. وكما ترى فإن المشهد البياني الذي ورد في الآيات يذكر المؤمنين بأكبر نعم الله تعالى، وأنت خبير بأن هذه النعم قد تفوق النعم المادية إذا ما نظرنا إلى استضعافهم في الأرض وما يلحق بهم من تفرق القلوب وعدم إيجاد السبيل الأمثل للتأليف بينها، كل ذلك يجعل المؤمنين في شقاق لا تنفك لوازمه، وبالتالي تكون أمة الرسالة قد اتبعت السبل التي تباعد بينها وبين سبيل الله تعالى، ومن هنا ذكرهم الحق سبحانه بنعمه عليهم من أجل أن يتوبوا ويرجعوا إليه جل شأنه، وإذا ما تم هذا الأمر فبلا أدنى ريب ستكون أمة الرسالة هي أفضل الأمم، وبالتالي يصدق عليها قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) آل عمران 110. ولو تأملنا في الآيات التي تذكر المؤمنين بنعم الله تعالى عليهم نجدها تتطابق فعلياً مع النعم التي امتن بها سبحانه على بني إسرائيل، وسنتعرض لهذا المعنى في المساحة المخصصة للتفسير.
تفسير آيتي البحث:
قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين... واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) البقرة 122- 123. نلاحظ في الآيتين إرجاع الكلام إلى الخطاب الأول الذي وجهه تعالى لبني إسرائيل والذي ذكرهم من خلاله بالنعم التي تفضل بها عليهم، لا سيما نعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم، ومن مصاديق تفضيله تعالى إياهم بأن جعل فيهم النبوة والحكم وأنزل إليهم الكتب كما في صريح القرآن الكريم، ثم أشار سبحانه إلى اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً وهو يوم القيامة، وكذا لا يقبل منها عدل أي فدية ولا تنفعها شفاعة إلا بإذن الله تعالى، وتذكيرهم بيوم القيامة وعطفه على النعم التي أنعمها سبحانه عليهم لا يراد منه إلا إلزامهم بالشكر والرجوع إلى الله تعالى بعد ظهور الانحراف السافر في معتقداتهم، وقد مر عليك تفصيل هذا المعنى في تفسير الآيتين 47- 48. من السورة نفسها، ومن أراد المزيد فليراجع.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
0 comments:
إرسال تعليق