طرابلس ـ الغربة
تراس راعي ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، قداس خميس الاسرار ورتبة الغسل، في كنيسة مار مارون في مدينة طرابلس، عاونه خادم الرعية المونسنيور نبيه معوض، والخوري جوزيف فرح. بحضور حشد من المؤمنين.
والقى المطران بو جوده عظة قال فيها:" رتبة الغسل التي نحتفل بها هذا المساء ليست سراً من الأسرار السبعة، لكنّها شبه سر، تهيّئنا لفهم الأسرار وأهمّيتها في حياتنا الإيمانيّة المسيحيّة. فالمسيح يسوع، إبن الله المتجسّد مع أنّه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متّخذاً صورة العبد (فيليبي2/6) وتصرّف كالعبد فغسل أرجل التلاميذ، وهي مهمّة العبيد في تلك الأيام. إنّها تعبير عن تواضعه وإنسحاقه ومحبّته للإنسان، وقد جاء ليُخلّصه من براثن الشيطان. ومن خلال تصرّفه هذا، أراد أن يُعلّمنا أنّ المحبّة ليست بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق. ولذلك قال للرسل بعد الإنتهاء من غسل أرجلهم: "أنتم تدعونني المعلّم والرب، وأصبتم فيما تقولون، فهكذا أنا، وإذا كنتُ أنا الرب والمعلّم قد غسلتُ أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلتُ لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضاً ما صنعتُ إليكم. الحق الحق أقول لكم: " ما كان العبد أعظم من سيّده ولا كان الرسول أعظم من مرسله، أمّا وقد علمتم هذا فطوبى لكم إذا عملتم به".
اضاف:"لكنّ محبّة المسيح للإنسان لم تتوقّف عند هذا الحد بل بلغت ذروتها على الصليب، فالمحبّة ليست مجرّد كلمات وعبارات بل هي موقف وقرار حر في إعطاء الذّات كلياً للآخر وفي التضحية في سبيله. في عالمنا اليوم وفي مجتمعنا المعاصر، غالباً ما نشوّه كلمة محبّة وكلمة الحب. فنحوّل معنى المحبّة إلى مجرّد عطاء خارجي وكأّنه حسنة نقوم بها تجاه الآخر، نقوم بها بصورة فوقيّة وكأنّها "تربيح جميلة" فنتصدّق عليه بما فاض عنّا وبما لم نعد بحاجة إليه. أمّا كلمة حب فقد حوّلناها إلى المعنى الجسدي والجنسي فقط في غالب الأحيان وأصبحت تعني بالنسبة إلينا السيطرة على الآخر وإستملاكه وإحتكاره وكأنّه مُلكٌ لنا تماماً كغيره من الأشياء الماديّة".
وتابع :"أمّا في المفهوم المسيحي وفي تعليم المسيح بالذّات، فالمحبة والحب هما عطاء وتضحية وتفانٍ في سبيل الغير، محبّة الله مثلاً هي تلك التي يقول عنها يوحنا الرسول في إنجيله: "هكذا أحبّ الله العالم حتى أنّه جاد بإبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة"(يو3/16). أمّا محبّة المسيح فهو يكلّمنا عنها بنفسه حين يقول:" ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه. محبّة المسيح للإنسان، أيّها الأحبّاء، تأخذ معناها وبُعدها الحقيقي اليوم، من خلال غسله لأرجل التلاميذ بالطبع، ولكن أيضاً وبصورة خاصة من خلال إعطائنا ذاته تحت شكلي الخبز والخمر في القربان المقدّس. فاليوم، تحتفل الكنيسة بهذا السّر وبسر الكهنوت المرتبط به جوهرياً، كما تحتفل أيضاً بكل الأسرار الأخرى المرتبطة بسر الكهنوت، ولذلك سمّي هذا العيد خميس الأسرار".
وقال:" اليوم هو إذن عيد المحبّة، محبّة الله للإنسان التي لا حدّ لها. والتي من خلالها نكتشف كم هو الإنسان مهم بالنسبة لله والكنيسة، إذ لأجله وهو المخلوق على صورة الله ومثاله، صار إبن الله إنساناً ليُعيد إليه صورة الله التي فقدها بالخطيئة، والتي شوّهها عندما أراد أن يجعل من نفسه إلهاً لنفسه ويستغني عن الله ويرفضه. الإنسان، هو القيمة المطلقة في نظر الله، وهو درب الكنيسة، كما قال عنه السعيد الذكر البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، وهو الخليقة الوحيدة في الأرض التي شاءها الله لذاتها وصمّم لها أن تحظى بالخلاص الأبدي، كما يقول المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. ولا نعني بالإنسان هنا الإنسان "المجرّد" بل الإنسان الحقيقي، الإنسان المحسوس، الإنسان التاريخي. فكل إنسان أدرج في سر الفداء وعبر هذا السر تمّ إتّحاد المسيح بكل فرد إلى الأبد (فادي الإنسان13- السنة المائة 53 ص100). وينجم عن ذلك أنّ الكنيسة لا يحل لها أن تخذل الإنسان، لأنّ الإنسان هو أوّل درب تجتازه في حمل رسالتها. درب رسمه المسيح نفسه ويمرّ دوماً وأبداً بسرّي التجسّد والفداء".
واردف :"فإذا كان للإنسان هذه القيمة المطلقة، أيّها الأحبّاء، إلى درجة أنّ المسيح بنفسه جعل من نفسه خادماً له عندما غسل أرجل التلاميذ، وعندما جعل من نفسه فادياً له ومُخلّصاً عندما مات من أجله على الصليب. فكيف يحقّ لنا نحن أن نحتقر هذا الإنسان وأن نقتله وأن نجعل منه سلعة للبيع والشراء أو مجموعة من الأنسجة لا قيمة لها في المختبرات. إنّ الكنيسة لا تعارض الأبحاث العلميّة والإختبارات التي تسعى إلى تحسين أوضاع الإنسان ومعالجة الأمراض التي تُصيبه وتُهدّد حياته، لكنّها وبكل حزم ووضوح لا تقبل بأن يستعمله رجال العلم كشخص مسلوب الإرادة يُستعمل كالآلة، تُجرى عليه الإختبارات وهو جنين، ثمّ يُلقى في سلّة المهملات. إنّ ما يحصل اليوم في هذه المختبرات لأمر رهيب ومخيف، يدعونا للتساؤل عمّا يعنيه الإنسان بالنسبة لبعض العلماء الذين يتصرّفون معه وكأنّهم آلهة يتركونه يعيش حين يريدون ويمنعونه عن الولادة والحياة عندما يريدون. فالإجهاض مثلاً أصبح شرعياً ومباحاً في الكثير من البلدان، والإستنساخ البشري هو على طريق التحقيق والتنفيذ، والأبحاث على الأجنّة تتقدّم يوماُ بعد يوم. كلّ ذلك أمر بالغ الأهميّة وجيّد إذا ما إستعمل بالطريق الصحيح، لكنّ ذلك خطر كبير عندما يفقد الباحثون والعلماء المعنى الحقيقي للإنسان".
وختم :" كما أنّ ما يحدث على الصعيد الأمني والسياسي في العالم في كل ما يتعلّق بالتصرّف الحر بحياة الإنسان أمر خطير للغاية، خاصة في تصرفات الإرهابيّين الذين يخرّبون ويهدمون ويقتلون البشر بالعشرات والآلاف دون أن يرفّ لهم جفن في مختلف البلدان والمناطق في العالم. ليتنا نأخذ من المسيح أمثولة أيّها الأحبّاء، في تعاملنا مع بعضنا البعض، بروح المحبّة والتضحية والعطاء لا بروح السيطرة والحقد والإنتقام، فننبذ من تفكيرنا وتصرفاتنا عقليّة حضارة الحقد والموت، لنحلّ محلّها عقليّة حضارة المحبة. فنغسل أرجل بعضنا البعض، أي بكلام آخر نحبّ الآخرين ونحترمهم ونعتبرهم عن حق صورة الله ومثاله، فنعاملهم كما يطلب منّا المسيح ونعتبر أنّ إحترامنا لهم هو إحترام له بالذّات هو الذي قال: "كلّما فعلتم ذلك مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي فعلتموه".
0 comments:
إرسال تعليق