الارتباط الوثيق بين الماضي والحاضر لا يمكن أن ينفصل عن صورته المشاهدة والتي على ضوئها نستطيع الوصول إلى معرفة المراحل الاستثنائية لكل فترة زمنية، أما إذا طغت الجوانب السلبية على تلك الصورة فسوف يكون الأمر خاضعاً للعلل الآنية التي كان للواقع المعاصر أثر في تغيير مسارها، ومن هنا فقد يؤاخذ الإنسان المناصر للطغاة والمتمردين حتى وإن كان ساخطاً على أمثالهم المشار إليهم في التأريخ، وهذا ما يريد أن يحدثنا عنه القرآن الكريم في ضربه للأمثال لا سيما تلك التي بينها في مسيرة أهل الكتاب باعتبارهم المثل الأعلى لكل أنواع القيم المتردية، وأنت خبير بأن حبهم الشديد للمادة كان على رأس الاتجاهات التي كان لها الدور المباشر في تعمية الصفات الحقيقية للإله وإبدالها بالصفات المادية التي تتقارب مع الصفات البشرية بما في ذلك القهر أو الاستعلاء عليه جل شأنه، ولا جرم أن هذه الفرية قد أصبحت من الضروريات التي انتقلت إلى بعض الفرق الإسلامية حتى كادت أن تكون ضمن الأولويات المقررة في عقائدهم، ولا ريب في ذلك لأن ملة الكفر واحدة مهما اختلفت المسميات.
فإن قيل: إذا كان هذا ديدن أهل الكتاب فكيف يطمع أصحاب النبي (ص) في إيمانهم؟ أقول: الفطرة الراسخة في الإنسان تجرفه دائماً إلى الميل لأهل العلم في جميع المسلمات التي يظن من خلالها أن لأولئك قدرة لا مثيل لها في إظهار العلوم الغائبة عنه وهذا ما يقع به كثير من المغفلين الذين يعتقدون أن من لبس لباس أهل العلم أصبح في المكانة المهمة التي لا يعلى عليها، علماً أن القرآن الكريم قد حذرنا من هذا الأمر وذلك بفتحه لجميع أبواب التأريخ لأجل أن يكون الإنسان في منأى عن الأخطاء التي مر بها من سبقه ولهذا كانت الدعوة الموجهة للنبي (ص) فيها إشارة إلى هذا المعنى لكي يباعد بين أصحابه وبين أهل الكتاب.
فإن قيل: ألا يؤدي هذا الأمر إلى قطع السبيل أمام فعل الخيرات وبالتالي يكون الإنسان بعيداً عن إصلاح الآخرين؟ أقول: عند نفاد الحجج والبراهين الموجهة إلى الناس الذين يأمل المؤمنون في إرشادهم فههنا يمكن أن ييأس المتصدي للدعوة من إيمانهم وذلك لأن قلوبهم أصبحت خالية من كل خير وصل إليهم وفي القرآن الكريم كثير من الأمثلة التي تبين ما نحن بصدده كقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) الكهف 6. وقريب منه الشعراء 3. وكذا قوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) يس 11. وقريب منه فاطر 18. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة 6. وقد جمع سبحانه هذا المعنى في الكبرى بقوله: (إنما أنت منذر من يخشاها) النازعات 45.
من هنا يظهر أن موضوع البحث فيه توجيه للمؤمنين الذين كان لهم طمع في إيمان أهل الكتاب، وكذلك فيه إشارة إلى أن هذا الطمع ليس في محله، لأن إعراض أولئك الناس عن إظهار الحقائق القرآنية المطابقة لما في كتبهم لا يرجع إلى جهلهم وإنما هو ناشئ بسبب حسدهم للنبي (ص) كونه من قوم آخرين علماً أنهم كانوا يستفتحون على المشركين بمعرفة أوصافه ونعته (ص) وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89.
وقفة مع آيات البحث:
قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) البقرة 75. في الآية إشارة لا تقبل اللبس بأن بني إسرائيل لا ينطبق عليهم التحريف بالجملة وإنما في الجملة، وهذا ظاهر في الفريق الذي أشار إليه سبحانه منفصلاً عن المجموع الكلي وقيل إن هذا الفريق يشكل الغالب العام منهم، ومن هنا نرى أن القرآن الكريم قد بين مدى الانحراف الذي مني به أسيادهم حتى أدى بهم إلى إبدال كلام الله تعالى أو الميل به إلى ما لا يتطابق مع الواقع المراد منه، وقد ذهب غير واحد من المفسرين إلى أن القصد من تحريف كلام الله تعالى فيه إشارة إلى تحريفهم لما سمعوا من المناجاة التي حصلت بينه سبحانه وبين موسى، واستناداً إلى هذا الرأي يتلاشى تفضيل موسى باعتبار أن هذا يقتضي عدم المفارقة بينه وبين من اختارهم للميقات، وكانت حجة من ذهب إلى هذا الرأي تفيد أن التحريف إذا طال كتاب الله تعالى فلا يمكن القول إنهم حرفوا كلام الله بل حرفوا كتاب الله وذلك للاستعمال الشائع الملازم للكتب المنزلة منه سبحانه، إلا أن هذا الرأي يرد بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة 6. وكما ترى فإن المقصود من (كلام الله) في الآية هو القرآن الكريم.
من ذلك يظهر أن تحريفهم كان أقرب إلى حذف الحقائق المنزلة في كتبهم وصولاً إلى تأويل ما يظهر أمامهم من الإشارات التي لها سبق في إظهار نعت النبي (ص) وصفاته حتى امتد هذا الزيف إلى أسلافهم الذين أصبحوا تبعاً للفريق المشار إليه، ولهذا كان همهم إبعاد القرآن الكريم عن نهجه المطابق للتوراة من أجل الحصول على مبتغاهم بطريقة غير شرعية، وحجتهم في ذلك ترجع إلى تطابق ما جاء في الكتابين، ولهذا نهى الله تعالى المؤمنين عن الطمع في إيمانهم، بمعنى إذا كانت هذه أفعالهم فكيف تطمعون في إيمانهم.
قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) البقرة 76. الآية تشير إلى المنافقين منهم أي إن هؤلاء إذا لقوا أصحاب النبي (ص) قالوا آمنا بالذي آمنتم به ولدينا علم بصفات النبي ونعته، أما إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الأسياد للمنافقين إن ما قمتم به من فعل سوف يؤدي إلى محاجتكم من قبلهم وذلك لأن اعترافكم بصفات النبي وتبيانها كما وردت في التوراة فيها شهادة دالة على صدق دعوته، وبهذا يظهر الفرق بين قالوا الأولى وقالوا الثانية.
قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) البقرة 77. الظاهر من السياق أن في الكلام توبيخ وزجر لهم عن التذبذب الحاصل في أقوالهم لأنهم كانوا على يقين بأن الله تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون، وهذا الفعل يكاد يتقارب مع من يأتي بالمعصية مع علمه أنها معصية، ولذلك كان توبيخهم من هذا الباب.
قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) البقرة 78. في الآية إشارة إلى صنف آخر من أهل الكتاب وهم الذين لا يعلمون الكتاب إلا عن طريق السمع دون أن يكون لهم علم بما يتلى عليهم، ولهذا وصفهم بالأميين، وقيل إن الأماني هي الأكاذيب التي تقودهم إلى الظن، كما في ذيل الآية.
فإن قيل: ذكرت في معرض حديثك أن هناك فرقاً بين قالوا الأولى وقالوا الثانية، فكيف يمكن التوصل إلى معرفة ذلك الفرق؟ أقول: يفهم المعنى من خلال القرائن المحيطة بالسياق، وهذا كثير في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) البقرة 232. وكما هو مبين في الآية فإن صدر الخطاب موجه إلى الأزواج، أما آخر الخطاب فهو موجه إلى الأولياء.
ومنه قوله تعالى حكاية عن أصحاب الكهف: (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) الكهف 19. فالذين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم هم غير الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، وهذا ظاهر من عدم الفصل بين القولين فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
فإن قيل: إذا كان هذا ديدن أهل الكتاب فكيف يطمع أصحاب النبي (ص) في إيمانهم؟ أقول: الفطرة الراسخة في الإنسان تجرفه دائماً إلى الميل لأهل العلم في جميع المسلمات التي يظن من خلالها أن لأولئك قدرة لا مثيل لها في إظهار العلوم الغائبة عنه وهذا ما يقع به كثير من المغفلين الذين يعتقدون أن من لبس لباس أهل العلم أصبح في المكانة المهمة التي لا يعلى عليها، علماً أن القرآن الكريم قد حذرنا من هذا الأمر وذلك بفتحه لجميع أبواب التأريخ لأجل أن يكون الإنسان في منأى عن الأخطاء التي مر بها من سبقه ولهذا كانت الدعوة الموجهة للنبي (ص) فيها إشارة إلى هذا المعنى لكي يباعد بين أصحابه وبين أهل الكتاب.
فإن قيل: ألا يؤدي هذا الأمر إلى قطع السبيل أمام فعل الخيرات وبالتالي يكون الإنسان بعيداً عن إصلاح الآخرين؟ أقول: عند نفاد الحجج والبراهين الموجهة إلى الناس الذين يأمل المؤمنون في إرشادهم فههنا يمكن أن ييأس المتصدي للدعوة من إيمانهم وذلك لأن قلوبهم أصبحت خالية من كل خير وصل إليهم وفي القرآن الكريم كثير من الأمثلة التي تبين ما نحن بصدده كقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) الكهف 6. وقريب منه الشعراء 3. وكذا قوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) يس 11. وقريب منه فاطر 18. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة 6. وقد جمع سبحانه هذا المعنى في الكبرى بقوله: (إنما أنت منذر من يخشاها) النازعات 45.
من هنا يظهر أن موضوع البحث فيه توجيه للمؤمنين الذين كان لهم طمع في إيمان أهل الكتاب، وكذلك فيه إشارة إلى أن هذا الطمع ليس في محله، لأن إعراض أولئك الناس عن إظهار الحقائق القرآنية المطابقة لما في كتبهم لا يرجع إلى جهلهم وإنما هو ناشئ بسبب حسدهم للنبي (ص) كونه من قوم آخرين علماً أنهم كانوا يستفتحون على المشركين بمعرفة أوصافه ونعته (ص) وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89.
وقفة مع آيات البحث:
قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) البقرة 75. في الآية إشارة لا تقبل اللبس بأن بني إسرائيل لا ينطبق عليهم التحريف بالجملة وإنما في الجملة، وهذا ظاهر في الفريق الذي أشار إليه سبحانه منفصلاً عن المجموع الكلي وقيل إن هذا الفريق يشكل الغالب العام منهم، ومن هنا نرى أن القرآن الكريم قد بين مدى الانحراف الذي مني به أسيادهم حتى أدى بهم إلى إبدال كلام الله تعالى أو الميل به إلى ما لا يتطابق مع الواقع المراد منه، وقد ذهب غير واحد من المفسرين إلى أن القصد من تحريف كلام الله تعالى فيه إشارة إلى تحريفهم لما سمعوا من المناجاة التي حصلت بينه سبحانه وبين موسى، واستناداً إلى هذا الرأي يتلاشى تفضيل موسى باعتبار أن هذا يقتضي عدم المفارقة بينه وبين من اختارهم للميقات، وكانت حجة من ذهب إلى هذا الرأي تفيد أن التحريف إذا طال كتاب الله تعالى فلا يمكن القول إنهم حرفوا كلام الله بل حرفوا كتاب الله وذلك للاستعمال الشائع الملازم للكتب المنزلة منه سبحانه، إلا أن هذا الرأي يرد بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة 6. وكما ترى فإن المقصود من (كلام الله) في الآية هو القرآن الكريم.
من ذلك يظهر أن تحريفهم كان أقرب إلى حذف الحقائق المنزلة في كتبهم وصولاً إلى تأويل ما يظهر أمامهم من الإشارات التي لها سبق في إظهار نعت النبي (ص) وصفاته حتى امتد هذا الزيف إلى أسلافهم الذين أصبحوا تبعاً للفريق المشار إليه، ولهذا كان همهم إبعاد القرآن الكريم عن نهجه المطابق للتوراة من أجل الحصول على مبتغاهم بطريقة غير شرعية، وحجتهم في ذلك ترجع إلى تطابق ما جاء في الكتابين، ولهذا نهى الله تعالى المؤمنين عن الطمع في إيمانهم، بمعنى إذا كانت هذه أفعالهم فكيف تطمعون في إيمانهم.
قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) البقرة 76. الآية تشير إلى المنافقين منهم أي إن هؤلاء إذا لقوا أصحاب النبي (ص) قالوا آمنا بالذي آمنتم به ولدينا علم بصفات النبي ونعته، أما إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الأسياد للمنافقين إن ما قمتم به من فعل سوف يؤدي إلى محاجتكم من قبلهم وذلك لأن اعترافكم بصفات النبي وتبيانها كما وردت في التوراة فيها شهادة دالة على صدق دعوته، وبهذا يظهر الفرق بين قالوا الأولى وقالوا الثانية.
قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) البقرة 77. الظاهر من السياق أن في الكلام توبيخ وزجر لهم عن التذبذب الحاصل في أقوالهم لأنهم كانوا على يقين بأن الله تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون، وهذا الفعل يكاد يتقارب مع من يأتي بالمعصية مع علمه أنها معصية، ولذلك كان توبيخهم من هذا الباب.
قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) البقرة 78. في الآية إشارة إلى صنف آخر من أهل الكتاب وهم الذين لا يعلمون الكتاب إلا عن طريق السمع دون أن يكون لهم علم بما يتلى عليهم، ولهذا وصفهم بالأميين، وقيل إن الأماني هي الأكاذيب التي تقودهم إلى الظن، كما في ذيل الآية.
فإن قيل: ذكرت في معرض حديثك أن هناك فرقاً بين قالوا الأولى وقالوا الثانية، فكيف يمكن التوصل إلى معرفة ذلك الفرق؟ أقول: يفهم المعنى من خلال القرائن المحيطة بالسياق، وهذا كثير في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) البقرة 232. وكما هو مبين في الآية فإن صدر الخطاب موجه إلى الأزواج، أما آخر الخطاب فهو موجه إلى الأولياء.
ومنه قوله تعالى حكاية عن أصحاب الكهف: (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) الكهف 19. فالذين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم هم غير الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، وهذا ظاهر من عدم الفصل بين القولين فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
0 comments:
إرسال تعليق