كيف نبني طفولة حقيقية مع وجود مأزق حقيقي؟
نحن لا نردد مثل غيرنا: "كم من المصائب ترتكب باسم حقوق الإنسان" ولكننا نرى أن حقوق الإنسان شيء نسبي، ويجب على المجتمع الدولي مراعاة نسبيته تبعا للبيئة والمعتقد الديني والقيم والموروث الفكري والجغرافية والوضع الاقتصادي للبلد والفقر والنزاعات المسلحة والصراعات المذهبية والدينية ودرجة تحضر وتقدم المجتمع وحتى طبيعة نظام الحكم فيهن لكي لا يتحول الاختلاف النسبي إلى خلاف فكري رافض ومتحد.
فما يمكن تطبيقه من معاهدات ومشاريع في بلد مسيحي منفتح كليا قد يتعذر تطبيقه في بلد مسلم أو يهودي أو بوذي. وما يعتبر في بلد ما عملا حياتيا طبيعيا لا غبار ولا منع ولا رقابة عليه قد يعتبر في بلد آخر احد أردأ الأعمال وأكثرها سفالة ودونية ومخالفة للمعتقد الديني، ويعتبر مؤشرا على درجة الانحطاط والشذوذ المجتمعي.
ويجب على الجميع أن لا يستهينوا بهذا الخلاف، فهو يبدو وكأنه العقبة الكأداء الوحيدة التي تعترض طريق تمرير الكثير من المشاريع الدولية، أو توحيد المعتقدات العالمية وفق آليات يقررها نفر محدود يريدون تعميمها على الكون، وذلك لأنه من غير المعقول أن نمحو أو نتجاهل ثقافة عمرها سبعة آلف عام رسخت مبانيها وطبائعها وعاداتها وتشريعاتها في عقول الناس توارثيا لنُحل محلها ثقافة العولمة والقرية الكونية الواحدة التي لا زال الكثير منا يجهلون أبجديتها، أو ثقافة الانفتاح الجنسي، والمثلية، وشرعية إسقاط الجنين ترفا، والمعاشرة الأسرية بدون زواج، والاعتراف بالأبناء غير الشرعيين، والاختلاط اللامقيد بين الأولاد والبنات التي يعتبرونها مخلة بالشرف ومخالفة للدين، نعم من غير المعقول أن نحل كل هذه التغييرات محلها بين ليلة وضحاها تحت غطاء حقوق الطفل أو حقوق الإنسان، فذلك يمثل خرقا كبيرا في المنظومة المتوارثة لكثير من البشر يصيبهم بالإحباط.
سألني محاوري الأمريكي: لماذا إذن تستخدمون المخترعات الغربية في كل مفاصل حياتكم، في اللبس والتنقل والاتصال والتكييف والعلاج والسياسة والأكل دون نقاش، ثم ترفضون الأخذ بالقوانين الغربية دون نقاش!؟
قلت له: أنتم تأكلون كل أنواع اللحوم ونشاهد في التلفاز أن بعضكم يأكل الديدان ولحم الكلاب والقطط، فلماذا لا تذبحون الإنسان وتأكلون لحمه، وهل أنتم مستعدون لأكل لحمه حتى لو كنتم مكرهين، أم ترون ذلك مخالف لفطرتكم!؟
نحن مثلكم نأكل أنواع اللحوم ونرفض بشدة أكل لحم الإنسان، نتقبل الكثير من قوانينكم الدولية ولكننا نرى في بعضها ما يخالف فطرتنا فلا نستسيغ قبوله.
نعم نحن قد نكون ألزمنا أنفسنا بالقوانين والمواثيق الدولية حينما وقعنا عليها في وقت يلزمنا فيه ديننا بوجوب احترام تعهداتنا وعقودنا، فالعقد في الإسلام شريعة المتعاقدين، ولكن ذلك يبدو أحيانا أكثر عسفا وإكراها من دكتاتورية المتسلطين، ومن أكل الإنسان للحم أخيه الإنسان، فنحن مجبرون على أن نكون أعضاء في المنظمات الدولية بحكم كوننا نحمل عضوية الأمم المتحدة التي تبدو البلدان دونها معزولة كليا عن العالم، ومجبرون غالبا على المصادقة على ما يصدر عنها، ولكن كيف نحمي أنفسنا مما يبدو تسلطا وغزوا فكريا خارجيا ونحن نراه يعترض على ثوابت نرى بعضها مقدسا، ولا نرى في الكون ما هو أصح منها، ونرى أن المجتمع الدولي يلزم البلدان الموقعة بالعمل بقوانينه التي تتعارض معها إكراها؟
معنى هذا أننا نقاسي ويلات ازدواجية قاهرة جعلتنا نعيش مأزقا حقيقيا وامتحانا صعبا يبدو كمعركة مصير ليس في مقدورنا كسبها، ونرفض رفضا قاطعا خسرانها.
نعم قد تكون جرائم ومآسي الحربين العالميتين أحد أسباب اهتمام الأمم المتحدة بحقوق الإنسان عامة وحقوق الطفل خاصة والباعث الحثيث سعيا وراء قوانين ونظم تضمن هذه الحقوق وممارستها وتطبيقها، ولكن تبقى للخصوصية رمزيتها وهيمنتها ويجب أخذ هذه الرمزية بنظر الاعتبار وإعطائها حيزا ضمن التشريع، وحينها سوف أتقبلها كما تقبلت الهاتف الخليوي والسيارة والكاميرا والملابس وغيرها، وكما تقبلت الكثير من القوانين، ولكني أرفض بشدة أن آخذ بالقوانين التي تخالف عقائدي كما أرفض أن آكل لحم الإنسان الذي يقدمونه لي!
وهذه ليست انتقائية ولا مزاجية لأنا نرى أن كل تلك الشعارات التي رفعتها المنظمات الدولية ومنها على سبيل المثال شعار (عالم جدير بالأطفال) رغم جديتها ومصداقيتها تبدو استنساخا لشعارات العوالم التي عاش فيها الأطفال عبر التاريخ ومنها عالمنا الحضاري القديم وعالمنا الإسلامي، فلو لم تكن تلك العوالم القديمة جديرة بعيش الأطفال ولو بالحد الأدنى من الحقوق ما كانوا ليستمرون في العيش، وما كانت البشرية لتستمر في التكاثر والتقدم والرقي.
وآباؤنا حينما نجحوا كانوا يعملون وفق موازنة الحقوق والواجبات، بينما نجد في القوانين الدولية تأكيدا على الحقوق وإغفالا للواجبات، مثلا طفلة في الصف الأول الابتدائي عمرها ست سنوات، ألقت الشرطة الأمريكية بولاية جورجيا القبض عليها ووضعت القيود في يدها، واصطحبتها إلى قسم الشرطة، بعد أن انتابتها نوبة غضب ألقت خلالها بكل ما وصلت إليه يداها، وأصابت مدير المدرسة إصابة طفيفة. وقد بررت الأم تصرف ابنتها، بأنها تنتابها نوبات تقلب مزاج. لو كانت هذه الطفلة تعرف واجباتها ما كانت لتتصرف بهذا الشكل الغريب بالتأكيد.
لذا على المنظمات الدولية التي رفعت هذا الشعار للحفاظ على حرية الطفل أن لا تهمل الواجبات والالتزامات من خلال التركيز على الحقوق وحدها لأننا من دون الواجبات سوف نحول الطفل إلى كائن اتكالي لا يعرف قيمة الواجبات وأهميتها ودوره الكبير في الحياة.
وإذا لم تأخذ المنظمات الدولية بخصوصيات البلدان وتشركها في قراراتها وتخصص لها حيزا في مشاريعها سوف تعزلهم عنها، أو تجد نفسها معزولة أمام معارضة قوية قد تصل حد التمرد، معارضة إما أن تَنهزم قسرا فتأخذ بقوانين المنظمات كرها وضغطا بدون إيمان حقيقي بمضمونها مما يجعل تلك القوانين عرضة للنقض متى سنحت الفرصة، وإما أن تعرقل تطبيق تلك القوانين وتتمرد عليها فتفقدها هيبتها.
إن البحث عن حقوق فئة من الناس لا يعني منح المنظمات الدولية شرعية مصادرة حقوق فئات أخرى تفوقها عددا وعملا وتأثيرا، فالموازنة الطبيعية مطلوبة لكي تستمر الحياة ناعمة سلسة. وما دام الهدف من وضع تلك القوانين هو حماية الإنسان فيجب أن تتوفر الحماية للبشر جميعا سواء كانت حماية حريات أو حقوق أو عقائد أو موروث.
لقد أثبتت الإحصاءات مؤخرا أن نحو (10) ملايين طفل في الساحل الأفريقي معرضون للموت الآن بسبب المجاعة والفقر، وهو رقم كبير بكل المقاييس، وأسأل هنا: أليس من حق هذه الملايين العشرة العيش ولو في أدنى المستويات؟ فلماذا لا تهب المنظمات الدولية والأمم المتحدة وشعوب الأرض الغنية لتقديم مساعدات دائمة مستمرة وتقوم بإدخال التكنولوجيا وآلات الإنتاج والمصانع وتقدم المواد الأولية لهم لكي ترفع من مستوى هذا الساحل المنكوب؟ أليس حياة طفل معرض للموت جوعا في زمن التخمة والتبذير هي أكثر أهمية من طفل مسلوب بعض الحقوق والقليل من الحريات ولكنه غير معرض لعذاب الموت جوعا؟ بما يعني أن الواجب يدعونا للدفاع عن الاثنين بنفس الدرجة.
وكشفت صحيفة "ميلينيوم" اليومية بمناسبة عيد العمال العالمي، أن هناك أعدادًا تتراوح بين 3 إلى 3,5 مليون طفل مكسيكي يعملون بأجر يومي لا يزيد عما يعادل دولارين في اليوم وأن أصحاب العمل يستغلونهم، ويعطونهم أجورًا زهيدة. وأن 1,2 مليون طفل منهم غير مسجلين في المدارس على الإطلاق، كما أن نفس هذا العدد من الأطفال قد لقي حتفه خلال السنة الماضية بسبب الفقر وسوء التغذية.
كما نشرت صحيفة "إل سور" أن نصف الأطفال المقيمين في المناطق الزراعية يضطرون للعمل في الحقول مثل العبيد، وأن 64% منهم لا يحصلون على أي أجر، بل يكتفي صاحب العمل بتوفير الطعام لهم. أولياء الأمور أنفسهم لا يجدون مبررًا للاهتمام بتعليم أطفالهم، ويدفعون بهم إلى سوق العمل، لمساعدتهم في توفير المال.
أعود وأقول: أن تطبيق القوانين المصيرية يحتاج إلى الكثير من الذكاء والمرونة والدبلوماسية، وقد لا نكون وحدنا من يختلف مع بعض ما جاء في القوانين الدولية لأن هناك حتما دولا وعقائد كثيرة في العالم تجد في القوانين الدولية ما يتعارض مع تقاليدها، ولكي تتيسر مهمة تطبيق هذه القوانين أرى على مستوى الجزئيات أن تعفى بعض البلدان والأديان من تطبيق بعض الفقرات الواردة في القانون، بعد أن تقوم البلدان المعنية بتحديدها بنفسها وتقديم طلب الاستثناء والحصول على موافقة المشرع، باعتبار أن تلك الفقرات تتعارض مع سلوكيات تلك الشعوب أو عقائد تلك الأديان.
وأذكر أيضا أن القوانين العامة تختلف من بلد إلى آخر في المنطقة الجغرافية نفسها، ولا تعترض الأمم المتحدة والمنظمات الدولية على هذا الاختلاف الذي تراه طبيعيا نابعا من عقائد وتراث تلك البلدان، فلماذا تسعى بعض المنظمات الدولية إلى إلغاء قوانيننا والعمل بقانونها دون النظر إلى الخصوصية؟
وأرى أن تؤكد المنظمات الدولية على أهمية تنظيمات بعض البلدان أو بعض حقبها الزمنية لتشعرها بأهميتها وبأن القانون الدولي ما هو إلا انعكاس لتلك الأهمية، فعلي سبيل المثال أصدرت سكرتارية الأمم المتحدة, لجنة حقوق الإنسان في عام 2002 برئاسة الأمين العام السابق كوفي عنان وبالاستناد إلى وثائق شملت 160 صفحة باللغة الإنكليزية قرارا جاء فيه: "يعتبر خليفة المسلمين علي بن أبي طالب أعدل حاكم ظهر في تأريخ البشرية" ودعت حكام العالم للإقتداء بنهجه الإنساني السليم. هذا القرار بالرغم من عدم تغييره للقناعات التي كونها الناس عن علي بن أبي طالب وبالرغم من أنه لم يضف إلى علي شيئا أكثر مما هو عنده، إلا انه أشعر المسلمين بأن هناك وعيا أمميا لا يمكن معه إهمال أهمية ما يخصهم في الحياة الكريمة التي تتماشى مع تعاليم دينهم
لقد حاولت من خلال هذه السلسلة من المقالات أنْ أبين أن هناك الكثير من الاهتمامات المشتركة بين البشر، والمفيد والنافع لا يتحقق بفرض اهتماماتنا عليهم وإنما يتحقق من خلال توحيد تلك الاهتمامات نحو هدف واحد يعطي للإنسان إنسانيته الحقيقية ويحرره من كل القيود التي تمتهن كرامته.
وحاولت أن اذكر المنظمات الدولية بأن عملها الجميل والجليل لا يستهان به، وهو عمل عظيم وإنساني بكل المقاييس، ولكنه يجب أن ينبع من الروح والعقل لا من العواطف والإملاءات القسرية، فالبشر متساوون في الحقوق مهما كان لون بشرتهم واختلاف سحنتهم وتعدد معتقداتهم وأديانهم وأعمارهم وأجناسهم، ولكن القوانين هي التي تختلف، فالقانون الإسلامي مثلا يبيح الزواج بأربع نساء بينما يعتبر العالم الغربي هذا العمل جريمة لا غفران لها، والمسلمون غير مستعدين للتخلي عن تشريع إلهي مقدس، والعالم يرى في تعدد الزوجات سلبا للحقوق، والحل أن نجد منطقة وسطى ترضي الطرفين من دون أضرار.
0 comments:
إرسال تعليق