زغرتا ـ الغربة
دشن رئيس اساقفة ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، كابيلا سيدة الانتقال في بلدة اجبع في قضاء زغرتا، لمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء، وذلك خلال قداس احتفالي عاونه فيه خادم الرعية الخوري جورج خطار، والخوريان جوزيف غبش، ويوسف المختفي، ومشاركة السفير البابوي في لبنان غابريال كاتشيا ولفيف من كهنة الابرشية.
حضر القداس الوزير السابق ابراهيم الضاهر، رئيس اتحاد بلديات قضاء زغرتا زعني مخائيل خير، وعدد من رؤساء بلديات القضاء، ومختاريها، وحشد من الشخصيات الاجتماعية والثقافية والنقابية ومدعويين. بعد الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة قال فيها:" نحتفل اليوم بعيد إنتقال السيدّة العذراء إلى السماء بالنفس والجسد، وهو من أهم الأعياد المريميّة الذي يكلّل حياتها على الأرض ويشركها بالمجد السماوي مع إبنها المنتصر على الموت والذي لم يقبل بأن يرى جسم أُمّه الفساد هي التي قالت عنها إحدى النساء إلى يسوع بعد أن سمعت تعليمه: " طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك".
واضاف :" لهذا العيد أبعاد لآهوتيّة مهمّة إذ أنّه ليس مجرّد تذكار عابر، ولا هو إحتفال عاطفي. فتكريم العذراء في الكنيسة يدخل في إطار التدبير الخلاصي، ويُعيدنا إلى بداية خلق الإنسان وعلاقته بالله، كما رواها سفر التكوين الذي يقول لنا أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، ونفخ فيه روحه وجعله سيّداً على كل الكائنات بعد أن وضعه في الفردوس. لكنّ الإنسان تكبّر على الله وإستُعبد للشيطان الذي أغراه وأقنعه بأنّه إذا خالف أمر الرب صار إلهاً لنفسه ولم يعد لله أي سلطة عليه. بموقفه هذا لم يحقّق الإنسان مبتغاه، بل على العكس فإنّه إكتشف عريه ومحدوديّته وإختبأ من وجه الرب الذي ذكّره أنّه من التراب أُخذ وإلى التراب يعود".
وتابع :" لكنّ الله الذي خلق الإنسان بمحبّة لم يرد أن يتركه فريسة بأيدي الشيطان، بل وعده بمخلّص يرمّم صورة الله فيه ويُعيده إلى الفردوس. الإنسان حكم على نفسه بالموت، لكنّ الله حكم له بالحياة، وعاقب الشيطان على فعلته وقال له بأنّه سيضع عداوة بينه وبين المرأة حواء، ممثّلة الجنس البشري مع زوجها آدم، فهو يرصد عقبها أمّا هي فسوف تسحق رأسه، وكان هذا الكلام ما سمّاه علماء الكتاب المقدّس الإنجيل الأوّل، أو بشرى الخلاص الأولى. وهكذا بدأت مسيرة الخلاص التي بلغت ذروتها مع ولادة المخلّص يسوع المسيح الذي قال عنه يوحنا الرسول في إنجيله:" إنّ الله هكذا أحبّ العالم حتى أنّه بذل إبنه الوحيد في سبيل خلاص العالم".
واردف يقول:" هذه المسيرة الخلاصيّة إستمرّت إلى أن بلغ ملء الزمن، كما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية، حين أرسل الله إبنه الوحيد مولوداً من إمرأة، هذه المرأة هي مريم العذراء التي خلقها الله، على مثال المرأة الأولى، بريئة من الخطيئة، نقيّة طاهرة كي تستطيع أن تأخذ الموقف المتجاوب مع إرادة الله بكامل حريّتها. فالمرأة الأولى حواء، التي خلقها الله نقيّة طاهرة، قد رفضته وإستسلمت لإغراءات الشيطان فحكمت على نفسها وعلى نسلها بالموت، أمّا مريم، حواء الثانية، كما دعاها آباء الكنيسة فعملت بإرادة الرب وقالت للملاك الذي بشّرها بأنّها ستكون أُمّاً للمخلّص الموعود: ها أنذا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك. يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما أنّه "كما أنّ الخطيئة دخلت في العالم على يد إنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت، فكذلك سرى الموت إلى جميع الناس لانّهم جميعهم خطئوا... لكنّ هبة الله غير خطيئة آدم. فإذا كان الموت ساد البشر بخطيئة إنسان واحد فبالاولى أن تفيض عليهم نعمة الله والعطية الموهوبة بنعمة إنسان واحد هو يسوع المسيح .فخطيئة إنسان واحد قادت البشر إلى الهلاك، أمّا هبة الله، بعد كثير من الخطايا فقادت البشر إلى البر. فإذا كان الموت بخطيئة إنسان واحد ساد البشر بسبب ذلك الإنسان الواحد، فبالأولى أن تسود الحياة بواحد هو يسوع المسيح أولئك الذين ينالون فيض النعمة وهبة البر" (روما5/12-17)".
وتابع :" بآدم الأوّل وحواء الأولى دخلت الخطيئة إلى العالم ومعها الموت، وبآدم الثاني يسوع المسيح وحواء الثانية مريم العذراء نالت البشريّة الخلاص. وبذلك نفهم الدور الأساسي الذي لعبته مريم في هذا التدبير الخلاصي. إذ إنّها على خلاف حواء الأولى التي إستسلمت لإرادة الشيطان، قد إستسلمت هي بملء إرادتها للرب كخادمة له عاملة بإرادته. بآدم الثاني وحواء الثانية إنتصرت البشريّة على الموت بقيامة المسيح من بين الأموات، هو الذي وطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور، كما تقول الليتورجية البيزنطيّة. العذراء مريم التي خلقها الله على مثال حواء الأولى بريئة من الخطيئة الأصلية والتي بقيت على علاقة صحيحة مع الله ولم تخالف إرادته، نجّاها الله من الموت الأبدي، ولم يترك جسدهاً يرى فساداً بعد إنتقالها من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى. وقد آمنت الكنيسة منذ القديم بهذه العقيدة، التي عاد فأكّد عليها البابا بيوس الثاني عشر في الخامس عشر من آب1950، بإعلان عقيدة إنتقالها بالنفس والجسد إلى السماء. وهذا ما أكّده كذلك المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني حين قال: إنّ مريم، بعد أن كمّلت حياتها الزمنيّة، إنتقلت بنفسها وجسدها إلى مجد السماء، وعظّمها الله كملكة للعالمين، لتكون أكثر مشابهة لإبنها ربّ الأرباب المنتصر على الخطيئة والموت. وقد آمن المسيحيّون في الشرق منذ الأجيال الأولى بهذه العقيدة وبصورة خاصة الشعب الماروني الذي ينشد بإستمرار في زياح السيّدة العذراء: "وإن كان جسمك بعيداً عنّا فصلاتك معنا وتصحبنا".
وقال :"في كل واحد منّا، أيها الأحبّاء، حواء الأولى وحواء الثانية. فنحن الذين نقّانا الله وطهّرنا من الخطيئة بالمعموديّة، أصبحنا أحراراً في إتخاذ الموقف الذي نريد في علاقتنا بالله. فبإمكاننا أن نرفضه ونستسلم لإرادة الشيطان ونعمل الخطيئة ونضع الله جانباً ونبني حياتنا بدونه وضدّه كما هو حاصل مرّات كثيرة كما فعلت حواء الأولى. وبإمكاننا أن نبقى على علاقة صحيحة معه على مثال مريم ونقول:"نحن خدّام لك يا رب، فليكن لنا بحسب قولك"، فنستحقّ بذلك الخلاص". هذا ما يمكن أن يحصل على صعيد حياتنا الشخصيّة كما على صعيد حياتنا الجماعيّة. إنّها التجربة التي يتكلّم عنها بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما حين يقول:" إنّي أعلم أنّ الصلاح لا يسكن فيّ، أي في جسدي. فإرادة الخير هي بإمكاني، وأمّا عمل الخير فلا. فالخير الذي أريده لا أعمله والشّر الذي لا أريده أعمله... ما أتعسني من إنسان فمن ينجّيني من جسد الموت هذا؟ الحمد لله بربنا يسوع المسيح. فأنا بالعقل أخضع لشريعة الله، وبالجسد لشريعة الخطيئة" (روما 7/14-25).
وختم :"هذا ما نعيشه شخصياً مرّات كثيرة وهذا ما تعيشه البشرية برمّتها اليوم، إذ أنّها غالباً ما تتصرّف وكأنّ الله غير موجود، وإذا كان موجوداً فلا علاقة له بها، وهي غالباً ما تقول له ما قاله أحد المتفلسفين المعاصرين، مشوّهاً الصلاة الربّية:" أبانا الذي في السماوات، إبقَ فوق، حيث أنت". وهذا ما يوصلنا إلى الموت والفناء. فلنطلب اليوم من الرب النعمة والشجاعة لنقول له مع مريم إنّنا خدّام له، وإنّنا مستعدّون للعمل بمقتضى الكلام، كي نستحق الخلاص ويتمجّد جسدنا مع المسيح القائم من الموت، على مثال مريم، فنعيش معه حياة السعادة الأبديّة في ملكوته السماوي إلى أبد الآبدين.
0 comments:
إرسال تعليق