من بعد تجسّد ربنا يسوع المسيح بخمسمئة وسبعة وثلاثين سنة، توفي في أبرشية "ليليكيا" في مدينة "أدنه" أسقف متعبد، حسن السيرة، أدار كنيسته بما يرضي الله، فأسرع أهل المدينة إلى مطرانهم، مطران "طرسوس"، طالبين منه أن يعيّن "توافيلس" أسقفاً يعوّض عليهم خسارتهم بوفاة أسقفهم المحبوب، نظراً لكثرة فضائله. ولكن "توافيلس" رفض أن يصبح أسقفاً، وأوصى أن يعيّن وكيله بدلاً عنه.
مرت الأيام و"توافيلس" يظهر طاعة عمياء للأسقف الجديد الذي اختاره بنفسه، إلى أن بدأ الشيطان اللعين يعزف على أوتار الحقد والحسد، كي يرمي الاسقف في هوته السحيقة، كما فعل بالكثيرين قبله، ويطرد "توافيلس" من الكنيسة ظلماً.
هنا، راح الشيطان يؤجج نيران الحقد والغيظ في قلب "توافيلس"، على هذا الأسقف الجحود، الذي احتقره بشدة بعد أن كان السبب في تعيينه.
ولكي يستعيد كرامته الضائعة، ومرتبته الأولى، التجأ المسكين الى التنجيم والسحر، فتعرّف على ساحر شرير، طلب منه أن يعيده الى سابق مجده، ويعيّنه أسقفاً نكاية بالأسقف الذي طرده، فطلب منه الساحر أن لا يرسم الصليب أبداً، كي تتحقق كل مطالبه، فوافق "توافيلس" على ذلك.
وفي المساء، دعاه الساحر الى اجتماع هام، فإذا به أمام مجموعة من الوجوه البشعة، وفي مقدمتهم شخص يعاملونه بإكرام وتمجيد. فطلب منه الساحر أن يسجد لذلك الشخص، فما أن سجد له، حتى قال الساحر:
ـ يا سيدي هذا عبدك "توافيلس"، وقد ظلمه أسقفه، وها هو الآن يطلب مساعدتك كي تعيد له مرتبته وكرامته.
فإجابه الشيطان:
ـ أساعده بشرط واحد، أن يكتب بخط يده أنه ينكر المسيح ابن مريم. فإن فعل، فسأعطيه كل ما تشتهيه نفسه من مراكز وخيرات.
فوافق "توافيلس" على كتابة ما طلب منه الشيطان، وشهد على نكرانه للسيد المسيح كل من حضر ذلك الاجتماع المخزي.
وللحال، اقترب منه الشيطان وقبّله وعانقه، وهمس في أذنه:
ـ الآن، ستعرف يا "توافيلس" مدى قوتي.
وعندما رجع "توافيلس" الى المدينة، استقبله الأسقف الذي طرده استقبالاً عظيماً، وطلب منه الغفران، وانتدبه أسقفاً، وأصبح الناس يخافونه ويكرمونه. إلى أن رجع عقله الى رأسه، وراح يتذكر العذاب الأبدي، وكيف أنه خسر ملكوت السموات، من أجل مجد باطل، وراح يبكي بكاء مراً ويصيح:
ـ الويل لك يا "توافيلس" كيف أنكرت المسيح؟ وكيف سلّمت بخط يدك هذا النكران المميت للشيطان؟ كيف أسترد تلك الورقة اللعينة؟ يا أرض انشقي وابلعيني، فليس لي رحمة عند الله.
وذات يوم، دخل الى كنيسة والدة الله، وارتمى أمام أيقونتها الطاهرة، وراح يبكي ويقول:
ـ يا أمي، يا أم الرحمة، أنا لا أستحق رحمتك، ولكني أعدك بأن لا أذوق طعاماً أو ماءً مدة أربعين يوماً كفّارة عن خطاياي، لتعلمي مدى حزني وألمي جرّاء نكراني لابنك، مخلصي وإلهي.
حاول الشيطان أن يمنعه من الصوم، ولكنه عجز عن ذلك، وما أن انتهت مدة الأربعين يوماً، نام "توافيلس"، فظهرت له في المنام سيدة العالم، وقالت له:
ـ كيف تريدني أن أساعدك وقد أنكرت ألوهية ابني يسوع المسيح؟
فأجابها بصوت مخنوق:
ـ خطيئتي عظيمة يا أمي، ولكني أعلم أن سيدي والهي يسوع كثير التحنن، ومحبته للبشر لا تحصى، وأنه صلب ومات من أجل مغفرة خطايانا. أرجوك يا سيدة العالم أن لا تديري وجهك عني، وأن تقبلي توبتي كي أغيظ الشيطان الذي أفرحته وأنا غارق في حقدي. وها أنا أعترف الآن، وكل لحظة، أن المسيح هو إلهي ومخلصي.
وقبل أن يستسقظ من نومه، سمع العذراء مريم تقول:
ـ إن كنت حقاً تؤمن بأن ابني هو الاله الحق، فلسوف أتشفـّع لك عنده كي يقبل توبتك.
وبعد ثلاثة أيام، جاءته السيدة مريم في المنام وقالت له:
ـ لقد قبل ابني توبتك، ولكن إياك أن تقع في الكفر مجدداً.
وعندما استيقظ، وجد الورقة التي كتبها للشيطان بين يديه، ففرح فرحاً عظيماً وراح يرتل بصوت عال:
ـ المجد لله في العلى وعلى الارض السلام.
ومن يومها، تخلّى عن العالم أجمع، وكرّس نفسه لخدمة كنيسة والدة الله الى آخر يوم من حياته. وعندما توفاه الله فاحت من جثمانه الظاهر رائحة ذكية، وصنع الكثير من العجائب. وقد كتب هذا الخبر تلميذه "أفتيثانوس" الذي لازمه طوال مدة تنسكه في الكنيسة.
**
0 comments:
إرسال تعليق