فإن قيل: إذا كان المخاطَب لا يثأر لنفسه ولا يراعي المحسنات المعتمدة من قبل المخاطِب فكيف ينتفع من النصح المقدم إليه؟ أقول: المحسنات الراقية هي صفات تولد مع الإنسان ويكون لها السبق في اكتساب الأخلاق الكريمة التي هي خارج الفطرة، ولهذا فإن اتخاذ السلوك السلبي في بداية حياة الإنسان قد يطغى على أفعاله، ولا يمكن التخلص منه إلا بتكرار التذكير وتبيان الصفات الحميدة الكامنة داخل النفس والتي لا تفارق الإنسان ما لم تسلب منه بفعل فاعل، ولهذا وجب التذكير بهذه الصفات من أجل إرجاع الإنسان إلى فطرته التي فطره الله تعالى عليها، ثم بعد ذلك يمكن أن يُستحضر لديه الاستعداد على تلقي النصح والإرشاد، لا سيما إذا كان للمخاطِب فضلاً سابقاً على المخاطَب، ولا يخفى على ذوي البصائر من أن إظهار صورة الفضل تجعل استجابة الأخير للقبول أكثر وقعاً على نفسه وذلك بسبب الأسلوب الذي جعله يرجع إلى حقيقته التي ولد عليها.
من هنا تظهر النكتة في أسلوب التذكير المعتمد في القرآن الكريم والذي أشار إليه تعالى في كثير من المواضع، كقوله: (فذكر إن نفعت الذكرى) الأعلى 9. وكذا قوله: (أو يذكر فتنفعه الذكرى) عبس 4. وقوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات 55. ومن هنا نرى أن الحق سبحانه قد اتخذ هذا النهج مع اليهود في المواضع التي ذكّرهم فيها بالنعم التي أنعمها عليهم، مشفعاً ذلك بتفضيلهم على العالمين، كما في قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) البقرة 47.
فإن قيل: يظهر أن اليهود أفضل من أمة محمد (ص) إذا ما أخذنا بمنطوق الآية دون مفهومها؟ أقول: لو ثبت ذلك لخصص عموم آية البحث بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) آل عمران 110. وكذا قوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) الحج 78.
فإن قيل: إذن ما معنى تفضيلهم على العالمين؟ أقول: أشار القرآن الكريم إلى أن هناك عدة وجوه لهذا التفضيل:
الوجه الأول: العالم يعني الجمع الكثير من الناس، وبهذا يكون تفضيلهم على مجموعة من الناس، ويشهد لهذا الوجه، قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71. وأنت خبير من أن المراد من العالمين في الآية لا يشمل جميع الناس، وكذا لا يراد من الأرض كل بقاعها وإنما في اللفظ إشارة إلى أرض معهودة فتأمل.
الوجه الثاني: فضلهم الله تعالى على العالمين بما أفاض عليهم من النعم دون غيرهم، إضافة إلى جعل النبوة والملك في أسلافهم، باعتبار أن خطابهم كان في وقت نزول القرآن الكريم، ويشهد لهذا الوجه، قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) المائدة 20.
الوجه الثالث: تفضيلهم على عالمي زمانهم، ويمكن أن يستشف هذا المعنى من قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) الدخان 32. ويدخل في هذا الاختيار امتيازهم بكثرة الأنبياء، وأكلهم المن والسلوى، وتظليلهم بالغمام، كما في قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) البقرة 57. وبهذا نعلم أن هذه الملازمة لا تخرج عن الإشارة إلى الوقت الذي تلاشى بسبب نقضهم للميثاق المشار إليه في قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) المائدة 13.
فإن قيل: ما الدليل على تفضيل هذه الأمة على بني إسرائيل، إذا ما علمنا أن فيها من سلك طريق الانحراف، لا سيما أولئك الذين عاصروا النبي (ص) والآيات بهذا الشأن كثيرة؟ أقول: لا يختلف اثنان من أن بعض الصحابة قد سلك طريق الانحراف، وهذا الأمر يجري في بني إسرائيل بنفس النسبة لو لا أن يبيّن الله تعالى ما حصل لديهم من مثالب لا يمكن تعدادها في هذا البحث، ولهذا أشار سبحانه إلى بعض النتائج التي تسببت بها تلك المثالب، كما في قوله: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل) المائدة 60.
فإن قيل: هل مسخهم قردة كان حقيقياً أم معنوياً؟ أقول: ليس هناك مانعاً من كلا الأمرين، فإن كان المسخ حقيقياً فهذا لا يخالف العقل، لأن الله تعالى قادر على خرق العادات، كما هو الحال في إبطال خاصية الإحراق لإبراهيم، التي ذكرها في قوله: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) الأنبياء 69. وكذا في إبطال خاصية الإغراق لموسى، المشار إليها في قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) طه 77. وهناك كثير من الآيات التي تشير إلى خرق العادات، ومن هنا نعلم أن المسخ إن كان حقيقياً فهذا لا يدعو إلى الغرابة، أما إن كان معنوياً، فهذا لا يحتاج إلى كثير من التأويل على ما نشاهده من الأفعال السلبية التي يقوم بها اليهود في كل وقت ومكان. ومن هنا نجد الإشارة إلى تلك الأفعال، كما في قوله تعالى: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) الحشر 14. ومن المثير للغرابة أن اختلافهم ناتج عن إيتائهم العلم، كما في قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب) هود 110. وكذا قوله: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين... وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) الجاثية 16- 17.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
0 comments:
إرسال تعليق