....وجود المسيحيون بين العرب،هو الذي يقدمهم كأمة ذات طبيعة قومية لا مجموعات دينية،والأمم الحديثة إن كان الدين عنصر حيوي في وجودها،الا أنها لا تقوم على أساس ديني وإلا فإنها تجد نفسها في حرب وصراع مع كل دين،وهذا ليس من الإسلام بشيء.
والذي يدفعنا إلى هذا القول ما يتعرض له مسيحيو الشرق وتحديداً في العراق من قتل وتهجير وتدمير واعتداء على دور عبادتهم من كنائس وأديرة والاستيلاء على أرضهم وممتلكاتهم والتعدي على حقوقهم وحرياتهم الشخصية وغدت المسألة كأنها عملية تطهير عرقي،ولعل ما قامت به جماعات إرهابية مؤخراً من احتجاز أكثر من مئة رهينة عراقية مسيحية في كنيسة سيدة النجاة تحت ذريعة المطالبة بإطلاق سراح سجناء لهم في العراق ومصر،هذا العمل الذي نتج عنه قيام النظام الطائفي العراقي باقتحام الكنيسة وقتل ما يزيد على خمسين رهينة،يثبت أن عمليات القتل تلك ليست بالعفوية،بل هي نتاج الأدلجة والتعبئة والتأطير العنصري والفئوي والطائفي والشعبوي التي تمارسها وتؤمن بها قوي ظلامية موظفة الدين عن جهل وتخلف لخدمة أغراضها وأهدافها المغرقة في الهمجية والوحشية،وليس هذا فحسب فإن ما جري ويجري في العراق ومصر واليمن والصومال والسودان وكذلك في لبنان وفلسطين له ارتباط عميق بثقافة وديمقراطية الدبابات التي جاءت بها أمريكا،حيث الهدف والمغزى واضحين تفكيك وتركيب الجغرافيا العربية من جديد وفق المصالح والأهداف الأمريكية والغربية والإسرائيلية في المنطقة.
والغريب أن ما يمارس من تطهير عرقي بحق مسيحي العراق،ليس له سوى معنى واحد هو القتل على الهوية،والخلط ما بين وحشية وتغول الغرب الاستعماري المشبع بالحقد والعنصرية والذي في سبيل مصالحه وأهدافه يستهدف العرب كأمة لا كطائفة او ملة أو ديانة وبين العرب المسيحيون الذين هم ليسوا جزء من الخلاف السني – الشيعي على السلطة ولا يطالبون لا بحصص في النظام أو وزارات أو إقامة إمارات،بل جل ما يطالبون به هو المواطنة الكاملة التي تصون فيها الحقوق والكرامات،وعلى مر التاريخ والعصور شكل العرب المسيحيون جزء أساسي من الوجود العربي في هذه الديار،كان وما زال لهم دور بارز وريادي في المشروع التحرري الوطني العربي والاستقلال،وكذلك المشروع النهضوي والحضاري.
ولم نشهد في أي مرحلة من مراحل تاريخنا ووجودنا العربي أن وضع المسيحيون العرب طائفيتهم فوق عروبتهم،بعكس المسلمين الذين أكثر من حزب وطائفة وضعوا ليس طائفتهم،بل إسلامهم فوق وطنيتهم وقوميتهم،وكثيرا من القيادات الدينية والسياسية ورجال الفكر المسيحيون أشاروا إلى انتمائهم العروبي القومي وثقافتهم الإسلامية،ويقف في المقدمة منهم القائد الوطني الكبير الراحل حكيم الثورة الفلسطينية جورج حبش والبابا شنودة ومكرم عبيد وغيرهم،والمسيحيون العرب لم يكن لهم بصماتهم الواضحة في المشروع التحرري القومي من الاستعمارين التركي والغربي فقط،بل كنا رواد وسباقين في هذا المجال ولا أحد يستطيع المزايدة عليهم أو إنكار دورهم،ففي مواجهة هجمة التتريك حفظت أديرتهم كتب التراث العربي،وبنى المسيحيون المدارس والمعاهد التعليمية لتدريس اللغة العربية في أكثر من دولة عربية،لأنها صوت ثقافتهم وتميزهم القومي الخاص،وعندما رفع الأتراك قوميتهم فوق ديانتهم،كان المسيحيون أول من رفع لواء العروبة ،وهبوا لتذكير المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس.
فالمسيحيون العرب كان لهم وما زال دوراً بارزاً في كل المجالات ثقافية وأدبية وتراثية ووطنية وسياسية ....الخ،وهم عندما حاربوا الاستعمارين العثماني والغربي لم يحاربوهما باسم الدين ولم يكن الدين قضيتهم،بل كانت قضيتهم القومية العربية والتحرر من الاستعمار والاستقلال،والشيء الغريب والمستهجن أنه رغم كل الذي قدمه المسيحيون العرب من نضالات وتضحيات ومساهمات جدية وكثيرة في المشروعين الوطني التحرري والنهضوي الحضاري يظلمون في أوطانهم ويهانون،بل ويمارس بحقهم تطهير عرقي حتى وصل الأمر حد احتجازهم رهائن في عقر دارهم.
ولوضع النقاط على الحروف لا بد من استعراض مكثف يلقي الضوء على دورهم وتاريخهم ومساهماتهم ونضالاتهم وتضحياتهم في المشروعين القومي التحرري والنهضوي الحضاري،ففي العمل الجهادي والاستشهادي كانوا سباقين في هذا الجانب فالضابط المسيحي السوري جول جمال،أول من تطوع للقتال الى جانب المصريين لصد وردع العدوان الثلاثي عليهم،وهو من قاد طوربيده المليء بالمتفجرات لكي يصطدم بالبارجة الفرنسية العملاقة جان دارك،والتي انشطرت الى نصفين وغرقت بمن فيها،وليكون غرقها وتدميرها من العوامل الهامة في صنع النصر المصري،وليس هذا فحسب بل رداُ على نكبة فلسطين وتشريد شعبها، والتي كانت من الأسباب الرئيسة في قيام ونشوء أحزاب وحركات عربية قومية للرد عل تلك النكبة وطرد الغزاة والمستعمرين، وقف على رأسها وقيادتها قادة من المسيحيين العرب منهم قسطنطين زريق كواحد من رواد القومية العربية وميشيل عفلق كمؤسس ومؤدلج لحزب البعث العربي الاشتراكي،والذي كان له شرف حكم العراق،والذي بعد سقوط حكمه بفعل التأمر والخذلان العربي واحتلاله من قبل أمريكا يدفع الشعب العربي العراقي بكل طوائفه واثنياته ثمناً باهظاً وجرحاً نازفاً الى يومنا هذا،وهذا الحزب أيضا من يقف على رأس الحكم في سوريا،والتي ما زالت قبلة كل الثوريين والمناضلين العرب،وفي النضال الوطني التحرري لا أحد يزايد على حكيم الثورة القائد الوطني الكبير الراحل جورج حبش أحد قادة حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية والتي أنجبت عمالقة في النضال والسياسة والعمل الجماهيري منهم الشهداء القادة وديع حداد وجايل العرجا ومها نصار وغيرهم،وكذلك نايف حواتمه الذي ما زال يقود الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومنها ايضاً الرفيق القائد المفكر داود التلحمي وغيرهم من رواد العمل السياسي والفكري.
المسيحيون العرب هم الغساسنة في حوران،والمناذرة في العراق ،وهم الذين استقبلوا أبناء عمومتهم القادمين في ألوية الفتح، في جنوب سوريا"الغساسنة" وفي شمال العراق "المناذرة"،وساعدوهم على الروم البزنطيين،ولولا مسيحيو الشام لما قامت الدولة العربية الأولى،أي دولة الأمويين.
والمسيحيون العرب لمع من بينهم أعلام كبار في الشعر والأدب والحكمة والخطابة أمثال امرؤ القيس وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم والأخطل "التغلبي" وابو تمام والأعشى وأمية بن ابي الصلت واكثم بن صيفي وورقة بن نوفل وغيرهم،وكذلك كان للمسيحيين العرب الإسهام الكبير في العصر الذهبي للثقافة العربية،فنقلوا علوم اليونان وحكمتهم الى العربية واشتهر منهم اسحق بن حنين وابنه حنين وابن البطريق وقسطا بن لوقا وثابت بن قرة ويعقوب بن اسحق الكندي ويوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع،أما أعلام عصر النهضة العربية الحديث من المسيحيون العرب فهم كثيرون ولا يمكن تخيل الثقافة العربية بدونهم ومن ابرزهم ناصيف وابراهيم اليازجي وفرنسيس المراش واديب اسحق واحمد فارس الشدياق وشبلي شميل وفرح انطون وجورجي زيدان ولويس شيخو ولويس المعلوف وعيسى اسكندر المعلوف وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وامين الريحاني ورشيد سليم الخوري وفوزي المعلوف ونسيب عريضة وايليا ابو ماضي ومي زيادة وخليل السكاكيني وغيرهم.
وكذلك المسيحيون العرب تصدروا إصدار الصحف في العالم العربي من الأهرام ومجلة روز اليوسف في مصر الى الدفاع في فلسطين وحديقة الأخبار في بيروت وغيرها.
والمسيحيون العرب هم ادوارد سعيد واميل توما واميل حبيبي وتوفيق طوبي وحنا ابو حنا وعزمي بشارة وغيرهم من قادة الفكر والسياسة والأدب والثقافة العرب والفلسطينيين.
بتغيب المسيحيين عن عروبتهم،لن يبقى لدى العرب إلا الدين،وهذا من دون مسيحيين لن يعود بمقاييس اليوم،ديناً جامعاً أبدا،فبدلا أن ترتفع التمايزات إلى مصاف الوطن والوطنية فان الإسلام من دون المسيحيين،سينخفض بمصاف تمايزاته ليكون صراعا بين سنة وشيعة فقط لا غير.
أحموا مسيحييكم،تحموا عروبتكم،بل احموا مسيحييتكم ،لتحموا دينكم نفسه من التمزق الطائفي إنهم ملحنا،وهم منا ونحن منهم،فلماذا يظلمون.؟
0 comments:
إرسال تعليق